0
تكاد الازمة الحكومية تصبح تفصيلا منسيا تحت وطأة الافتعالات شبه اليومية لملفات او ‏حالات او أزمات تعكس في عمقها الانهيار الذي لم يعد يحتاج الى اثبات او الى اطلاق عد ‏عكسي لانفجاره وهو انهيار اخر معالم الدولة او بقايا المؤسسات. 
ولم تكن الوقائع ‏الفضائحية لأسوأ تفلت وانتهاك للنظام القضائي وأصوله الجادة والمتحفظة والرصينة التي ‏تعتبر الأبجدية الأساسية لمهابة السلطة القضائية في آخر الأسبوع الماضي عبر "مهزلة ‏عوكر" حيث تولت القاضية غادة عون بالأصالة عن موقعها وبالنيابة عن التيار الحاكم الذي ‏يرعاها ويدعمها الى حدود خلق سابقة تفلت وتمرد لم يشهدها القضاء اللبناني حتى في ‏ازمان الانقسام والتقسيم والتحارب وخطوط التماس الاهلية، سوى علامة خطيرة للغاية من ‏علامات توغل التخبط الذي بات السمة الأخطر لادارة البلاد السياسية في ظل عهد تتجرأ ‏حالات انقلابية وغوغائية على تفجير اضطرابات عامة وداخل المؤسسات متلطية باسمه ‏وتحت راية تياره السياسي ودوما تحت مسميات مكافحة الفساد! ‎
واذا كانت الحالة الغوغائية التي شهدها اللبنانيون يومي الجمعة والسبت الماضيين في ‏عراضة قادتها قاضية على رأس مجموعة مقتحمين من انصار "التيار الوطني الحر" في ‏محلة عوكر رفعت العنوان الأسوأ لاقتحام حرمة النظام القضائي مجدداً واستكمال العبث ‏في المؤسسة الام التي يعول عليها الدور المحوري في إعادة ترميم وإصلاح الدولة ‏المتهالكة، فان الأخطر ان يتبين ان التحريض العارم على هذه الحالة جاء ويستمر من رئاسة ‏التيار الحاكم بذاته في ما يثير الأسئلة المشتعلة في كواليس القوى المعنية ولدى المراقبين ‏عما ينتظر لبنان يوما بعد يوم ودور أي مؤسسة واي قطاع واي ملف سيكون غدا وبعده ‏وبعده..
والأخطر ان يجزم معنيون ومطلعون في هذا السياق ان وتيرة افتعال حالات ‏الاضطرابات لن تقف عند حدود، ما دام نهج تغييب تشكيل الحكومة الجديدة يمضي بلا ‏هوادة، بدليل ان العهد يقفز من ملف الى آخر كما فعل في محاولة عقد صفقة مع ‏الاميركيين في تجميده مرسوم تعديل الحدود البحرية مع إسرائيل وقبله في ملفات أخرى ‏جرت حوله مقايضات، والان سيكون دور زج القضاء في لعبة باتت تهدد البلاد باخطر ‏التداعيات. ولم يكن أسوأ من عراضة التمرد القضائي سوى محاولة وزيرة العدل في ‏حكومة تصريف الاعمال ماري كلود نجم زج جميع القضاة في خانة الإدانة للتهرب من ‏اتخاذ موقف واضح وحاسم من حالة تمرد القاضية غادة عون على قرار النائب العام ‏التمييزي غسان عويدات تجنبا لإغضاب مرجعية الوزيرة السياسية المتمثّلة برئيس ‏‎"‎التيار ‏الوطني الحر" جبران باسيل. وقد اثارت نجم عاصفة انتقادات لموقفها الباهت حيال ‏القاضية عون وتجرؤها في المقابل على الجسم القضائي كلا، الامر الذي كشف مجددا خفايا ‏المعركة الشهيرة للتشكيلات القضائية بينها وبين مجلس القضاء الأعلى التي انتهت ‏بتحجير رئيس الجمهورية ميشال عون عليها بعد طول مناكفات تولتها الوزيرة مع الجسم ‏القيادي القضائي‎.‎
‎ ولم يكن غريبا والحال هذه ان يقرر امس رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود ‏والنائب العام لدى محكمة التمييز غسان عويدات عدم حضور اجتماع كان مقررا عقده اليوم ‏مع وزيرة العدل ماري كلود نجم في ضوء ما جاء في مؤتمرها الصحافي السبت، خصوصاً ‏لجهة تهجّمها على القضاء وعدم التزامها ببعض ما ورد في الاجتماع السابق. ويشار الى ان ‏معلومات أفادت ان مجلس القضاء الأعلى سيعقد اليوم اجتماعا استثنائيا للنظر في حالة ‏غادة عون فيما تحدثت معلومات أخرى ان هيئة التفتيش القضائي ستعقد اجتماعا غدا ‏لاتخاذ القرار المناسب في حق عون. وقد وصف مصدر قضائي قضية غادة عون بانها ‏تشبه حالة النقيب احمد الخطيب الذي تمرد على الجيش في بدايات الحرب وقال انه منعا ‏لتكرار مثل هذه السابقة هناك المادة 95 التي تنص على وضع حد للقاضي بكف يده علما ‏ان ثمة اصطفافات سياسية في مجلس القضاء الأعلى ولكن بأكثرية ثمانية من عشرة ‏أعضاء يمكن المجلس ان يتخذ قرارا في مهلة لا تتجاوز الأيام الثلاثة والا تكون التداعيات ‏على القضاء بالغة الخطورة‎ .‎
‎ الترددات النقابية والسياسية
وذهب نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف الى السؤال في معرض التداعيات التي ‏اثارها المشهد الطارئ: "أين هو مجلس القضاء الأعلى وهل استنكافه عن القيام بمهامه ‏يُنقذ القضاء؟ أين هي هيئة التفتيش القضائي وهل غيابها عن تأدية دورها يُنقِّي القضاء؟ ‏ألم يحن الوقت لكي ترحل المنظومة القضائية الأمنية السياسية، بكلّ أفرادها ،كلّهم ‏ووجوهها ومشغّليها، عن القضاء النزيه والقضاة الشرفاء الشجعان الأنقياء؟ ". وقال: "اليوم، ‏لم يَعُد من قيمة لأيٍّ من المواقف المتناحرة، ولا لأي آراءٍ سياسية، ولا لأي بطولات وهمية. ‏ولا ينفع البكاء على الأطلال، ونقابة المحامين لن تختار البكاء أمام إطفاء شعلة العدالة في ‏لبنان، وما يجري بحقّ الشعب اللبناني هو ذروة الظُلم، ونحن في هذا لن نكون صامتين ‏أمام إغتيال العدل ولا شهود زور".. ‎ ‎
وفي الترددات السياسية اثار المشهد القضائي مزيدا من الاحتدام فاعتبرت "كتلة ‏المستقبل" ان "المشهد الهزلي الذي تدور احداثه على خشبة مسرح قضائي، هو علامة من ‏علامات محاولات استكمال الانقلاب على الدستور والنظام الديموقراطي عبر تعطيل ‏المؤسسات ومحاولة نسخ "نظام الجماهيرية" الذي نتذكره كيف كان يحكم بذلك الاتزان ‏العقلي المشهور". وحذرت الكتلة من "ازدراء المؤسسات الدستورية، ومن عمليات تحريض ‏بعض القضاة على اغتصاب صلاحيات ليست لهم والتمرد على قرارات مجلس القضاء ‏الاعلى ورئيسه والنيابة العامة التمييزية والتفتيش القضائي، عدا عن تحريض بعض القضاة ‏أيضا على الاستنكاف عن المثول امام المراجع القضائية المختصة، ورفض تبلغ الطلبات ‏القانونية والقرارات القضائية، مما يؤدي الى انتهاك القوانين والانظمة و فقدان الشعب ‏ثقته بقضائه‎".
‎ في المقابل غرد رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل قائلا: "عادةً في الدول ‏الفاشلة، تنقلب الناس على الانظمة المستبدّة فتطيح بها وتستردّ حقوقها المنهوبة؛ امّا ‏عندنا، فالمنظومة الفاسدة انقلبت على الناس واستولت على أموالهم وهي تتحضّر ‏للإنقلاب على أصول الدولة ووجودِها؛ فالى من يلجأ الناس ليستعيدوا مدّخراتهم؟ الى ‏القضاء الدولي؟ سنتكلّم قريباً ". وكانت الهيئة السياسية في "التيار الوطني الحر" اصدرت ‏بياناً حيت فيه "كل قاضٍ يتجرّأ بالحق ويقوم بواجباته رغم ما يتعرض له أحياناً من ظلم". ‏وبادر معظم نواب التيار الى اعلان تأييدهم لحركة القاضية عون‎ .‎
اما النائب علي حسن خليل فاعتبر "أن أخطر ما نشهده اليوم هو صورة الدولة وانهيارها"، ‏لافتًا إلى أن "الحل هو بتشكيل حكومة بأسرع وقت"، وموضحًا أن "عراقيل تشكيل الحكومة ‏داخلية بسبب الاطماع الشخصية"، وشدد على أن مبادرة الرئيس نبيه بري تنطلق من مبدأ ‏أن لا ثلث معطل في الحكومة. وقال خليل في كلمة ألقاها خلال الذكرى السنوية لشهداء ‏مجزرة قانا: "المشهد الذي تابعناه في اليومين الماضيين يدل على أننا أمام انهيار شامل ‏لأركان الدولة، وأنه حتى الناس فقدوا ثقتهم بالدولة".. ‎ ‎
‎الراعي والحكومة
وبدا لافتا تجاهل البطريرك الماروني الكاردينال ما بشارة بطرس الراعي لهذا الحدث ‏القضائي في عظته امس بحيث ركز مجددا على الاستحقاق الحكومي وحده معتبرا ‏ان "العالمُ ينتظرُ أن تُؤلّفَ حكومةٌ ليتّخذَ المبادراتِ الإيجابيّةَ تجاه لبنان. وما من موفدٍ عربيٍّ ‏أو دوليٍّ إلا ويُردِّدُ هذا الكلام. جميعُهم يَتوسَّلون المسؤولين عندنا أن يَضعوا خلافاتِهم ‏ومصالحَهم وطموحاتِهم الشخصيّةَ جانبًا، وأن يَنكبّوا على إنقاذِ البلادِ". وقال "ما لم تتألفْ ‏حكومةُ اختصاصيّين غيرِ حزبّيين لا هيمنةَ فيها لأيِّ طرفٍ، عبثًا تَتحدثون، أيهّا المسؤولون، ‏عن إنقاذٍ، وإصلاحٍ، ومكافحةِ فسادٍ، وتدقيقٍ جنائي، واستراتيجيّةٍ دفاعية، ومصالحةٍ وطنيّة. ‏إنَّ معيارَ جِديّةِ المطالبةِ بكلِّ هذه المواضيع هو بتأليف الحكومة. فلا تَلهُون المواطنين ‏بشؤونٍ أخرى، وهم باتوا يميّزون الحقَّ من الباطل‎".
 
النهار - 19 نبسان 2021

إرسال تعليق

 
Top