0
لم يحكم رينيه معوض ليتسنى للبنانيين والتاريخ إصدار حكم تفصيلي له، او عليه، لكن اسلوب الرئيس في "جمهورية الـ17 يوماً" ارسل اشارات تُعبّر عن اختلاف اسلوبه، هكذا قال الزميل غسان شربل، مضيفاً: "كان رينيه معوض من اولئك الرجال الذين يعرفون القصة، قصة لبنان بمبررات قيامه واستمراره، من قماشة الذين "اخترعوا" لبنان قبل نصف قرن كبشارة الخوري ورياض الصلح وآخرين، وقماشة الذين حفظوا السر كفؤاد شهاب والياس سركيس وصائب سلام وتقي الدين الصلح ورشيد كرامي وآخرين".

لم يكن رينيه معوض سيف طائفته بل كان العقل الهادئ الذي يسعى لتجنيبها الظلم الناجم عن سيوفها، وظلم سيوف الآخرين. لم يكن حارساً لخطوط التماس، ولا جنرالاً يأمر بإشعالها، كان اللبناني العتيق الذي يجازف بعبورها كمن يؤكد احتجاجه عليها. كان ابن الذاكرة اللبنانية التي لا تقرّ قطع الشرايين، ولا تسلم بإغلاق النوافذ. في زغرتا، كانت عينه على بيروت الشرقية. وفي بيروت الشرقية كانت عينه على بيروت الاخرى. فهذا الشمالي كان ابن الخريطة بحدودها الكاملة، لا يسقط الجنوب ولا ينسى البقاع.

حافر الجبل بإبرة

لم يكن رينيه معوض خطيباً مفوهاً ولا رمزاً لعصبية ولا قائداً جماهيرياً يعزف للناس ما ينتزع منهم التصفيق والتلويح بالقبضات. كان رجل الثوابت اللبنانية يحملها بصبر واناة، وكان "يحفر الجبل بإبرة"، كما قال صديقه نصري المعلوف: "لم تكن شجاعته استعراضية لكنها كانت حاضرة، اعتداله لم يوصله الى التفريط بل الى محاولة تحصين الجوهر وإنقاذه".

الرهان على الدولة كان رهانه الكبير. الدولة التي تذهب الى الناس في ورشة الانماء المتوازن قبل ان تذهب اليهم في اللباس العسكري. كان رينيه معوض مشروع مصالحة بشخصه، وبالحل الذي اوصله إلى الرئاسة. كان منتصف الطريق بين اللبنانيين انفسهم وبين اللبنانيين والآخرين، او على الأقل كان اقرب النقاط الى منتصف الطريق.

ويؤكد شربل: "ان أبرز اهتمامات الرئيس معوض كانت تتعلّق باسترجاع قصر بعبدا الذي كان الجنرال ميشال عون يتحصن فيه من دون الاضطرار الى استخدام القوة". وبرغم تعثر مهمات وسطاء بينهم الآباتي بولس نعمان الرئيس العام السابق للرهبانية المارونية، فقد بدا معوض شبه واثق من قدرته على اختراق الفريق المؤيد لعون. ويقول احد المطلعين ان عسكريين كباراً من انصار عون بينهم قائد اللواء الأبرز آنذاك ابلغوا معوض سراً انهم لن يدخلوا في اية مواجهة مع عهده، وحضّوه على ايجاد مخرج. ويضيف المصدر نفسه، ان معوض اغتيل قبل ان يتوصل الى استنتاج من نوع توجيه تحذير الى عون او اعتبار العمل العسكري ضده خطوة لا بدّ منها، كما ان معوض نجح في الحصول على تفهم الاطراف الخارجية التي كانت تُعتبر داعمة لعون.

ويصف دولة الرئيس حسين الحسيني صديقه الشهيد قائلاً: "كان معوض شخصية مارونية مؤهلة منفتحة على كل المناطق، ومن دون اية عداوات. لم يشارك في الحرب ولم يتخذ اي موقف طائفي ولديه ثوابت راسخة بشأن الوفاق وفكرة الدولة".

من 1943 الى 1989
إنه يوم الأربعاء من صباح 22 تشرين الثاني 1989. لبنان الخارج للتوّ من حرب أهليّة بعد توقيع اتفاق الطائف، يحتفل بالذكرى السادسة والأربعين لعيد الاستقلال في ظلّ رئيس للجمهوريّة اسمه رينيه معوّض منتخب منذ 17 يوماً، وذلك بعد 409 أيام من الفراغ الذي استولد حكومتي سليم الحص وميشال عون، هكذا تصف الزميلة لينا فخر الدين ذلك اليوم.. وتضيف مسترجعة الذكريات: القصر الجمهوري محتل من الشعب، وميشال عون يقيم فيه مع عائلته… في 21 تشرين الثاني 1989، يوجه رينيه معوض كلمة الاستقلال الى اللبنانيين.. في اليوم التالي، كان اللبنانيون بانتظار حفل الاستقبال التقليدي في مقرّ السرايا الحكومية المؤقت (في الصنائع). فخامته يخرج من منزله. تضع السيّدة الأولى نائلة معوّض في جيبته حبة بونبون بعد أن يئست من إقناعه بعدم الذهاب. يصرّ معوّض على الاحتفال بالاستقلال مؤكداً "أنني أخاطر بحياتي للحفاظ على الروابط بين كلّ فئات لبنان". أكثر من ثلاث ساعات قضاها معوّض وإلى جانبه الحسيني والحصّ في السرايا. يضعون يدهم في يد المهنئين. يخرج فخامته ليعود إلى منزله. 


في تمام الساعة 2 إلا عشر دقائق، وعند تلك النزلة المعروفة بـ"حبس النسوان" (عائشة بكار)، كان بانتظار معوّض 250 كيلوغراماً من المتفجّرات. معوّض الذي كان ينظّم بالأمس موضوع توزيع الأكاليل على الأضرحة، صار اليوم رجلاً للاستقلال. وتحوّل معه العيد إلى ذكرى استشهاد رئيس الجمهوريّة.

قصة الاغتيال

تذكر مصادر خاصة لموقع (أخبار زغرتا – الزاوية الالكتروني) وقائع من يوم اغتيال الرئيس رينيه معوض مستغربة كيف تم طمس الامر وعدم وجود قرار ظني، او ملف قضائي في هذا الموضوع، وتؤكد انه يوم 5 تشرين الثاني من عام 1989 عند انتخاب الرئيس رينيه معوض رئيساً للجمهورية في مطار القليعات، أصبح العميد طنوس معوض المسؤول الأول عن حماية الرئيس من قبل الجيش اللبناني. وقام رئيس جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية يومذاك العميد غازي كنعان بتكليف الرائد في المخابرات السورية جامع جامع بتولي مسؤولية الاستطلاع وحماية رئيس الجمهورية اللبنانية رينيه معوض من قبل الدولة السورية، وأن يكون من الفريق الأمني التابع للرئيس، وأن يسكن في القصر الجمهوري. الا ان الرئيس رينيه معوض رفض فكرة سكن ضابط سوري داخل القصر الجمهوري، فأوعز الى العميد طنوس معوض باستضافته في فندق "البوريفاج"، وهذه الخطوة لم ترق للقيادة السورية..

فتش عن المخابرات 

ويشير المصدر الى ان اللافت ان الانفجار الذي استهدف موكب الرئيس معوض والموضوع قرب حائط ثانوية "رمل الظريف"، وقع في منطقة تابعة لمركز المخابرات السورية – مفرزة الحمراء، والنقيب السوري جهاد صفتلي كان من عديد هذا المركز.. كما ان الرائد جامع جامع كان في طليعة الموكب ومتقدماً 150 متراً عنه، وهو نفسه من كان يوجه الموكب عند وقوع الانفجار الذي استهدف موكب الرئيس معوض قرب ثانوية رمل الظريف، كان الرائد جامع جامع قد وصل الى محاذاة منزل الرئيس سليم الحص، فتابع سيره وكأن شيئاً لم يكن رغم ضخامة الانفجار الى أن وصل الى المقر الرئاسي، سُئل عن مصير الرئيس معوض فأجاب الرائد جامع جامع: "ما بعرف"..

بحسب المصدر.. النقيب صفتلي التابع للمخابرات السورية هو من نفذ عملية الاغتيال حيث وضع المتفجرة وفجّرها بأمر من غازي كنعان وبمساعدة رستم غزالة والرائد جامع جامع. بعد ذلك روّجت الاستخبارات السورية معلومات وبقصد التضليل تشير الى ان الضابط صفتلي قُتل في ضهر البيدر، الا انه وبعد اغتيال الرئيس رينيه معوض رُقي – أي صفتلي – الى رتبة رائد، ثم شوهد لاحقاً يتنقل ما بين المطار وعنجر، وفي سنة 1990 أصبح المسؤول عن الاغتيالات والعمليات السياسية في لبنان، كما يدعي المصدر.. 


اختفت بقايا السيارة
الانفجار ادى الى شطر سيارة الرئيس رينيه معوض المصفحة الى شطرين، وهي من نوع "مرسيدس 500". وهذه السيارة كان قد قدّمها الى الرئيس معوض رجل الاعمال (يومذاك) رفيق الحريري، وسُحبت السيارة على الفور الى ثكنة الحلو، ولم يُسمح لأحد الاقتراب منها وحتى الأجهزة الأمنية اللبنانية مُنعت من ذلك.

وتؤكد السيدة نايلة معوض (زوجة الرئيس) في لقاءات صحفية: "انه من الاساس رجوت الدولة إحضار خبراء وقلت: احضرهم على نفقتي، لكنهم احضروا اختصاصيين في المتفجرات. المتفجرة التي استُخدمت يومئذٍ فريدة من نوعها، متطورة جداً وقليل استعمالها في كل بلدان العالم، والكثير من السفارات وحتى شركة مرسيدس، تريد ان تعرف نوعية هذه المتفجرة التي فتتت سيارة المرسيدس 500 المصفحة. كانت لدي صداقات مع هذه السفارات، وعندما كنت اطلب منهم خبيراً كانوا يقولون أن ذلك ليس باستطاعتهم، وأن هذا الموضوع من دولة لدولة، من مخابرات لمخابرات، من اجهزة لاجهزة، ونحن لا نستطيع. ويومئذٍ كان هناك حذر لدى بعض الدول لناحية إرسال موفدين الى لبنان، لكننا كنا استطعنا بطريقة ما، عبر الاجهزة ان نعرف شيئاً على الاقل".

وتذكر اوساط انه وبعد فترة قصيرة تم تقطيع ما تبقى من السيارة الى أجزاء صغيرة أمام أنظار المسؤولين عن ثكنة الحلو، وقد اختفت الأجزاء كلياً بحجة أن أحداً سرقها من داخل الثكنة..

استهداف الطائف 

ميشال رينيه معوض رئيس "حركة الاستقلال" وابن الرئيس الشهيد اعتبر إنّ اغتيال رينيه معوّض إنّما استهدف اتّفاق الطائف ببعده اللبناني والعربي والدولي. فهذا الاغتيال استهدف في آنٍ واحد مشروع مصالحة اللبنانيين على أساس الميثاق والصيغة والدولة والنظام التعدّدي الحرّ، كما استهدف مشروع مصالحة تاريخية بين لبنان وسوريا على أساس الندّية واحترام سيادة الدولتين واستقلالهما، كما استهدف ايضاً مشروع إعادة الاعتبار الى لبنان، وطن الرسالة المتفاعل مع محيطه العربي والمنفتح على الغرب. فاغتيال الرئيس رينيه معوّض أدّى الى تحويل لبنان من مشروع وطن متماسك الى ساحة ممسوكة. فرينيه معوّض ورفاقه لم ينالوا حقّهم في محاكمة قتلتهم لأنّ النظام الذي اغتال معوّض هو نفسه الذي حكم لبنان بعد اغتياله وعطّل العدالة في ملف الجريمة.

مصير المتهمين

العميد غازي كنعان: "قضى انتحاراً" كما تردّد في سوريا بتاريخ 12 تشرين الثاني 2005.

الرائد جامع جامع: رُقي الى رتبة مقدم بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض وأصبح المسؤول عن مركز الحمراء لفرع المخابرات السورية. أُعلن عن مقتله في محافظة دير الزور شرق سوريا في 17 تشرين الاول 2013 وكان برتبة لواء.

اللواء رستم غزالة: أُعلن عن وفاته في 24 نيسان 2015 في ظروف غامضة بعد نقله الى المستشفى.

العقيد جهاد الصفتلي: يدور حول مصيره لغط كبير. ففيما تؤكد السلطات السورية أنه توفي في حادث سيارة منذ سنوات، أشارت أوساط لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري إلى أنها تملك مستندات تثبت أنه لا يزال حياً، وأنه "متوفٍ على الورق" فحسب، وأن عملية "تمويته الصورية مع ضباط آخرين" كانت بهدف قطع الخيوط المتعلقة باغتيال الرئيس معوض عام 1989 بالنظر إلى أنه، وفق المعطيات المتوافرة، هو من قام بتنفيذ جريمة الاغتيال.

ووفق مصادر خاصة انه وفي عام 2004 رُقي الصفتلي الى رتبة عقيد، وهو من أشرف على تنفيذ اغتيال الرئيس معوض وداني شمعون وعائلته وغيرهم من السياسيين اللبنانيين لغاية خروج الجيش السوري من لبنان.. هذا بحسب رأي المصدر..
 
تقصير الدولة فاضح
وعن مصير التحقيق في جريمة الاغتيال تقول السيدة نائلة معوض في احدى مقابلاتها: "يوجد تقصير فاضح من قبل الدولة بالنسبة الى موضوع التحقيق في عملية اغتيال الرئيس معوض واكثر من مرة شكوت هذا الموضوع.. داخل المجلس وخارج المجلس وفي مقابلات صحفية. ونصحني بعضهم برفع دعوى". سألتهم: "لماذا ارفعها انا؟ وأنا أرفض ان أفعل ذلك لأن الذي استشهد هو رينيه معوض رئيس الجمهورية وليس زوج نائلة معوض، وعندما اتقدم بدعوى فكأنني احجّم استشهاده، فالذي استشهد هو الرئيس".

استشهد الرئيس رينيه معوض، ومعه استشهدت جمهورية كان يرسمها في أمنياته واحلامه ونضالاته، خسره لبنان زعيماً وطنياً علمانياً معتدلاً منفتحاً على الجميع…
 

انا خسرت زوجي والبلد خسر رئيساً امضى عمره يسعى من اجل الوفاق. اعطى حياته لبلده بكل معنى الكلمة. اعطى حياته لطموحات بلده.. هكذا تصف السيدة معوض خسارة الرئيس الشهيد..

صبحي منذر ياغي - مجلة الافكار - 22 تشرين الثاني 2015

إرسال تعليق

 
Top