0
كما الأرزة في كنف العلم، كذلك الجيش ولبنان، شيء من التلازم بين الخيار والقدر، وشيء من استحالة الفصل بين قوة المؤسسة واستمرارها وسيادة الوطن واستقراره.
لقد تبدّلت عهود واندلعت حروب وثورات، وحصلت انقلابات وتحوّلات في الشرق الأوسط والمحيط العربي، تغيرت أنظمة وصيغت دساتير جديدة، وبقيَ نظامنا الديموقراطي «جوهر الميثاق»، صامداً على خطّ الزلازل وحدّ الخطر، يحميه الجيش اللبناني ضامناً بقاء لبنان «الواحد المستقل»، معززاً الإيمان بأن التنوع هو سر كيانه وجوهر ديمومته.
فإذا كان قدر الجيش هو الحفاظ على القَسَم والعَلَم، فإن خيار اللبنانيين الثابت، وبعد التجارب المرّة مع الاحتلال وسلبيات الدويلات والميليشيات والوصاية والحماية، هو الدولة التي يحميها الجيش، الدولة الملاذ التي تحفظ الحقوق والكرامات، وتحمي وتدير التنّوع بعيداً من صراع الهويات والعقائد والمذاهب والمحاور.
صحيح أنه ليس بالأمن وحده يحيا الوطن، لكن لا وطن من دون أمن، ولا أمن وسيادة وكرامة من دون الجيش. وكما للمواطن حقوق على الدولة والجيش في الأمن والأمان والحماية، فإن للجيش حقه على الشعب والدولة. فهو الى جانب التجهيز والتسليح والدعم المادي والمعنوي، يحتاج الى بيئة وطنية نقيّة والى دولة حاضنة راعية.
فالجيش ليس جسماً مجرداً منفصلاً يعمل مستقلاً عن الدولة والشعب، بل هو منهما ولهما، ينشد الغطاء السياسي الرسمي بالقرار، والشعبي بالتأييد والمؤازرة. لكنه في الوقت عينه لا يحتاج رعاية تبلغ حدّ الارتهان ولا احتضان يبلغ حدّ الاستئثار والتقييد.
لقد برهنت المؤسسة العسكرية على مدى تاريخها، أنها المؤسسة الأكثر تجسيداً لرسالة لبنان، والعيش الأخوي لطوائفه ومكوناته وشرائحه المختلفة، ونجحت في مواجهة المؤامرات ومحاولات زعزعة الاستقرار وتهديد السلم الأهلي، كما نجحت غير مرة في منع الفتن الداخلية وعدم السماح لها أن تمتدّ، وفي كشف العملاء وشبكات التجسس، وفي تفكيك وتعطيل شبكات الارهاب والانتحار والتكفير وكل شكل من اشكال التطرّف. واجه الجيش أصعب الظروف في تاريخه وتاريخ لبنان، لكنه أثبت التزامه بالعقيدة الوطنية المناهضة للعدو الاسرائيلي، وبأنّ وحدته الوطنية راسخة، وأنّه يشكّل العمود الفقري للبنان، وضامن لوحدته واستقراره ومستقبله.
كما عجزت الشعائر الدينية والشعارات السياسية والاجتماعية عن منع العسكريين المتحدرين من العائلات اللبنانية المتنوعة والمذاهب المتعددة والمناطق والطبقات الاجتماعية والثقافية المختلفة، من الانصهار مع رفاق السلاح وتنفيذ المهام الوطنية جنباً الى جنب وكتفاً إلى كتف. لقد بذلوا العرق والدم معاً وامتزجا بتراب الوطن، وليس أي تراب آخر، للحفاظ على القيم الانسانية الحضارية التي تدّعي جيوش الغرب اعتناقها.
لم يحد الجيش يوماً رغم الصعوبات، عن الالتزام بهذه القيم وفي مقدمها الديموقراطية، حقوق الانسان، حرية التعبير، نبذ التعصب والعنصرية والطائفية ومحاربة الأرهاب وغيرها… وكان لإحترام هذه الاولويات الأثر الكبير في عدم الانزلاق في المواجهات بين القوى المسلحة والمواطنين في حمأة الربيع العربي الدموي.
هذا الالتزام دفع اللبنانيين مرات عديدة الى الالتفاف حول قادة المؤسسة العسكرية وتأييدهم لإدارة شؤون البلاد، حيث لا يزال ذكر الرئيس اللواء فؤاد شهاب مثالاً يحتذى في بناء الدولة والمؤسسات، دون أن يسجل لهذا الجيش قيامه بإنقلاب عسكري على السلطة ليملأ أي فراغ حكومي وسياسي، ولم يأخذ يوماً على عاتقه أن يحلّ بوسائل عسكرية مجرّدة، أزمة وطنيّة، أو يعالج انقساماً طائفياً ومذهبيّاً، أو وضعاً متفجّراً على خلفيّة انعكاس أي نزاع خارجي انخرط فيه بعض اللبنانين، خلافاً للعقد الاجتماعي، لا بل كانت المؤسسة العسكرية أقرب إلى الممارسة الديموقراطية المرتبطة بروح الميثاق والعيش المشترك والدستور، من أمراء الطوائف الذين امتهنوا الاقطاع السياسي وجنحوا الى الممارسة الدكتاتورية.
انطلاقاً من كون الجيش الممثّل الشرعي للوطنيّة اللبنانيّة والمجسّد الدائم لوحدة لبنان واللبنانيين، لم يعد جائزاً أن تمنعه السياسة من الدفاع عن لبنان في مواجهة العدو الاسرائيلي أو غيره، في حين يتولى غيره هذا الواجب المقدس.
ايضاً لم يكن الجيش، ولن يكون أبداً، قوة فصل بين جيوش لبنانيّة صغيرة أو ميليشيات أو جماعات مسلّحة بحجّة الدفاع عن قضية فئويّة أو طائفية أو حيّ أو منطقة. ومن هنا، لم يعد مسموحاً هذا الانتشار العشوائي للسلاح، وأحقية الضغط على الزناد لأهداف خارجة عن التوافق الوطني.
ولا يجدر التغنّي بالاستقلال إذا ما عجزت الدولة عن نشر سلطتها الحصريّة على كامل تراب الوطن، وضبط البؤر الأمنيّة، وقمع المخالفات ومحاربة التكفير والارهاب، وإن لم تكن القوات المسلّحة هي الممسكة الوحيدة بالسلاح والناظمة للقدرات الدفاعية والضابطة لكامل الحدود اللبنانية البرية والبحرية تحت إشراف السلطة السياسية.
إن مهمة الجيش تصعب إذا تورّط فريق أو أكثر من اللبنانيين في صراعات خارج الحدود، ما يؤدي الى استيراد أزمات الخارج الى الداخل، فيتحّول الوطن الى ساحة مكشوفة لحرب بالوكالة تنوء تحت ثقلها وأعبائها جيوش الدول الكبرى.
وتتعقد مهمة الجيش لا بل تستحيل، إذا استمر الخلط ما بين حدود السياسة والميدان، وإذا استمرّت ازدواجية السلاح الشرعي وغير الشرعي في كل المناطق. فلا شراكة مع الجيش والقوى الشرعية الرسمية في الأمن والسيادة والتصرف بعناصر القوة التي هي حق حصري للدولة. ولا لازدواجية السيادة وإمرة السلاح على ارض واحدة، وفي ظلّ دولة واحدة.
ولعل أدهى ما كشفته المراحل السابقة، أن أي سلاح خارج منظومة الدولة ووحدة قرارها يتحوّل جزءاً من أدوات الصراع على السلطة أو الهيمنة، أو قوّة احتياط، لتسعير النزاعات والحروب الأهلية.
ومثلما لا يجوز نقل الجيش من موقع الدفاع عن المواطن الى موقع الدفاع عن نفسه كما رأينا في تحرك المتقاعدين مؤخراً، خصوصاً في حالات الاعتداء عليه أو على حقوقه التي هي بمثابة فلس الأرملة او الغدر بضبّاطه وجنوده، كذلك لا يجوز تحميل الجيش خطايا غيره الجسيمة، ثم محاسبته على أخطائه القليلة، (إن وُجدت).
من أجل كل ما سبق أعلاه.. وليبقى للوطن عيد، لا تعمدوا إلى حشر أنف السياسة والمحسوبية والمحاصصة في الجيش، وهو طبعاً لن يقبل بذلك مهما بلغت الضغوطات.. من الأفضل أن يستمر الجيش مرآة شفافة تعكس عدالة الحكام وتجردهم بعيداً من حب الذات، ومن أن يكون هدفاً لتدخلاتهم ومطية لتنفيذ سياساتهم.

الرئيس ميشال سليمان - افتتاحية اللواء - 1 اب 2019

إرسال تعليق

 
Top