0
كلام أهل الإبداع كلامٌ استباقي. ومتى كانوا من أبناء الروح، يأتي استباقهم استشرافاً مؤكداً لما يلي من أيام وأحداث. الأب ميشال حايك من هؤلاء. على أن قراءته اليوم ليست لمتعة القراءة، ولم تعد كذلك من زمان. إنها للتأمّل، واستخراج الحلول. فما جاء بقلمه في عظة ألقاها يوم الجمعة أول آذار 2002، دعوة المسيحيين الى التأمّل والحلول. أو يظل “التمزّق المسيحي”، عنوان العظة، يحفر عميقاً في العظم ويبقى لبنان في محطة انتظار أبنائه الممزّقين، المتخاصمين، المقصّرين عن استحقاقه.
إن من يهرق نصف عمره في الشرق وفي الغرب نصفه الثاني، يعيش ممزّق الجسد والفكر والروح ويكاد يضيع هويته في الطريق، إذا شرّق تبرّم بعيوب الشرق وحنّ الى الغربة وإذا عاد فتغرّب ذكر قيَم الشرق فعاوده اليه الحنين. يعيش إذا في غربتين كأنه يحيا بلا وطن إلا إذا استطاع أن يستوطن المتناقضات. هذا الشعور تعانيه النفس كل ساعة ولو لم ينطق به اللسان كل حين، وكأنما هو شعور خصّ به المسيحيون دون الناس، ولا عجب!
فالمسيحيون هم أهل التناقض سلّمهم إيمانهم الى هذه الأضداد التي تقول بإله واحد، واحد الذات مثلث التجليات، وتقول بمسيح واحد جمع في فرديته اللاهوت والناسوت ويشدّ بها التوق الى المسيح المتولّي في الدهر الخالي والى المسيح المتجلّي في الزمن الآتي. وتتنازعهم وصيتان، واحدة تلتزم تفجير الأرض والثورة في العالم وأخرى تعمير العالم! وتضرب بهم نزعتان تشدّ بهم الأولى الى قوم وأهل وإقليم وتحجم بهم الثانية عن كل قومية وأهلية وتذهل بكل إقليم وتصوم عن كل قضية. قال لهم المسيح أنتم في العالم ولستم من العالم. فما أشد ما يقاسي الوجدان المسيحي من تفسخ وانشطار وسط هذه النقائض التي تتقاسمه عقيدة وفكراً وقلباً وحياة.

لدى كل الأحداث والعقائد والأوضاع والظروف في كل حال، نجد المسيحي مبرّح الضمير، معذب الوجدان يتبرّم بكل حكم ثم يكون أول الراضخين، ولا يقنع بقضاء ثم يكون أول المحافظين يتشبث حيناً بتقاليد بالية، حتى ليصلّي بلغة لا يفهم كلماتها ثم نراه في طليعة الناقضين لكل تقليد موروث، لأن الحياة عنده تطلع من الموت، كما يبدع من العدم وجود وكما ينبعث من القبر المسيح.
كذا هي متناقضات النفس المسيحية في أي أرض وزمان وجدت يتردد فيها خضى عهدين آمنت بوحيهما معاً، عهد عتيق يردها الى الوراء وعهد جديد يدفعها الى أمام يتضارب فيهما آدم التقليد وآدم التجديد. فهي كالجثمانية يئن فيها المسيح المتضايق فهو ابن الله وهو ابن الانسان في نزاع لا ينتهي بين الألوهة والإنسانية، ممزّق بين إرادة الآب وإرادة الإنسان الجسدي. هذا النزاع الذي هو مخاض الحياة في أعماقها وأعاليها، هذا النزاع لم يسلم منه وجدان مسيحي عميق يبلغ ذروته عندنا نحن مسيحيي الشرق وقد حتّم علينا من دون سائر المؤمنين أن نجمع الأضداد كلها لنصون الأمانات كلها عقيدة وحضارة وتراثاً.
أمانة أولاً للمقامات الرسولية الخمسة، أمانة للقدس، أمانة لأنطاكيا، أمانة للاسكندرية وللقسطنطينية ولروما.
نحن أيضاً مرتبطون فكراً وحياة بكل متناقضات التعبير الإنساني، نقرأ الكتاب المقدس بلغة موسى العبراني وأفلاطون اليوناني، ونصلي بلهجة قريش العربي ونرفع القربان بلسان المسيح الآرامي. ثم إننا كهذا الشرق المتعدّد الوجوه نفسه، هذا الشرق الغارق في التاريخ حتى أصول الزمن، فلا يعرف أحد أين يبتدي هذا الشرق ولا كيف ينتهي، طوائف على صورته ومثاله، هي تعابير عن تراثات حضارته المختلفة، تراثات حضارية مختلة، راسبة فينا من سوريا القديمة، من بيزنطية، من الرومان، من الإغريق، من الفرس، من أبناء الجزيرة العربية، من بلاد ما بين النهرين. هي أسلاك من الأمس متشابكة في الحاضر، كيّفت فينا ذهنيات متباينة، أحكم عقدها التاريخ. فلكل طائفة تاريخ فريد يتحكم فيها ويفرض عليها مواقفه لدى كل قضية من الوجود، والقضية التي نعالجها هي موقف المسيحي الآن من المشرق العربي. إنه لديه كعادته الأصيلة، ممزّق النفس، موزع الاتجاه بين حضور وغياب، بين ترسّل وتردّد، بين طليعة وقطيعة حسبما تحكم له أو عليه الذهنية الموروثة من ماضيه. فهو مصلوب يتأرجح بين حدين أبعدين، فالمسيحي هنا في الشرق هو إما ابن التراث البيزنطي في المدى الإمبراطوري العثماني أو العربي، أو هو نقيض ذلك ابن الجبل القورشي، وليد القرى، وليد الجبال وريث تقاليد رفضت باسم الحرية أن تنطوي تحت لواء امبراطورية أو سلطنة أو خلافة. رفض بيزنطية ابن الجبل القورشي واعتزل القومية السورية، انقطع عن العباسيين، احتمى عن المماليك، تفرد عن رعايا الحكم العثماني.
كان همه الأول والأخير الاعتصام في مأوى والإعتماد على نفسه، هذا إذا لن يكون مبتغاه استعادة امبراطورية لم يندمج تماماً بها، بل الحفاظ على فرديته في شخصية مستقلة ومنطقة حرة. فالدعاة الذين أطلعهم كانوا من الأمس الى اليوم يقولون بوطن واستقلال وتمييز وحرية، وإلا بلا الحياة.
هذا المسيحي وذاك، كلاهما حصيلة تاريخهما القديم، هذان التيارات ليسا جديدين، لم يبرحا يعتملان في المسيحية منذ نشأتها، منذ زمن الرسل الأولين نرى الواقع نفسه، النسبية، نسبة الى الشعوب. نبتت الكنيسة في بدايتها على جذع اليهودية فالتزمت العهد القديم، وعرضت لها التجربة الأولى، أتُحصر هذه المسيحية الطالعة في التوراة وتتقيد بشرائع الناموس وطقوس التلمود؟ الى هذا التأويل مال بطرس هامة الرسل فوقف بولس في وجهه وناهضه وناقضه بإسم الشمول المسيحي لأن المسيحية من العهد العتيق، أجل ولكنها مسؤولة عن الأمم جميعها، من المسكونة كلها.
كذا عاش المسيحيون أولاً زمن الرسل، كذا عاش المسيحيون تحت الحكم الروماني في القرون الثلاثة الأولى ممزّقين بين ولائم قيصر والإنتماء الى العالمية، كذا قال أحدهم باختصار كل أرض هي وطن لنا وكل وطن هو أرض غربة لنا. وكذا عاشوا في حكم بيزنطية يوالون الملوك في لغتهم ودينهم ويتبرّمون بالإمبراطورية فيعتزلونها باسم قومية سوريا ولغتها السريانية. وكذا كان مسلكهم من الفتح العربي، هو واكبوه وشرّعوا له أبواب الشرق باسم السامية الجامعة، ثم لما أصبحت خلافته طاغية اعتزله البعض منهم باسم الهويات الفردية. وكذا أيضاً واكب البعض منهم الصليبية لما قطع السلجوقيون عليها أبواب الأرض المقدسة، ولكنه مع مواكبتهم للصليبية رفضوا سلطوية الغرب اللاتيني باسم الشخصية المسيحية. وكذا ناهضوا بني عثمان باسم القومية العربية التي كانوا أول الدعاة والمترسلين لها.
القومية العربية كما شاءها المتقدمون وكما كانت في مصادرها الأولى كانت دعوة الى التملّص من أساليب الحكم الموروثة عن القرون الوسطى. أصلها هذه القومية ديمقراطية، علمانية، لا شريعة الله شرعها ولا إرادة السلطان ظل الأرض على الأرض لملكها، فهي دعوة الى إنشاء مجتمع أركانه مفاهيم فلسفية من معطيات العقل لا منزلات من الغيب، قوامه عناصر بشرية تلتقي حول أهداف زمنية من العدالة والحرية والإخاء.
هؤلاء طلبوا التحرر من الحجز الديني التيوقراطي، هؤلاء المسيحيون شقوا دربها، درب تلك القومية تحت شعار اللغة، فأنشأوا الجمعيات القلمية ونشروا المطابع ووضعوا المؤلفات وأسسوا الصحف والمجلات وبعثوا اللغة من انحطاطها، ومع اللغة بدأ يتبلور الوجدان القومي، ثم هذا الوجدان ثاروا عليه. كان المطلب من بني عثمان في بدء العهد الإصلاح، ولكنه ما لبث أن أصبح دعوة الى التحرر من السلطنة، ثم كان الإنتداب بعد التحرر، فإذا بالقومية دعوة الى التحرر من كابوس الإنتداب، وتمّ الإستقلال فجنى الشرق أولى ثمار القومية لما نشأت الأوطان وكان عليها أن تجني ثمار الفصول التالية لو مشت في ركب التطور الى حيث كان دعاة القومية الأولون منذ البدء يقولون، تطور صوب العلمانية، تفلت من قيود الغيبيات السياسية، إقلاع عن المذهبية، نمو في التفكير الإجتماعي، إبطال للإقطاعيات، ممارسة للعدالة والحرية.
كان عليها، تلك القومية بعدما تحررت من قيود الغيب، أن تتحرر من التباسات الذات، ولكن النكبات حلّت بالشرق ولم تمهد الى ذلك سبيلاً، داهمها الزمن وهي على غير استعداد مخلفات الإستعمار، تخلف المجتمع، رواسب الذهنية العثمانية. فوجئوا فإذا الصهيونية جائت ترد التفكير القومي الى نظرة عرقية تيوقراطية وترجع التاريخ الى منطق موسى ولا من يردعها. لا قوة الحق السماوي ولا شرعة العدل البشري ولا قرارات الوجدان العالمي كانت رادعة لها. بقي على العرب الردع الممكن الوحيد المؤسف درب موسى بموسى، والعنصرية بأختها والتيوقراطية بمثيلتها. أكرهت الصهيونية القومية العربية على أن تجرب كل المحاولات لتواجه النكبة لتنهض الى مستقبلها من الثورة الى العنف الى دعوة للتوحيد الديني والجغرافي الى ربط الدين بالقومية، الى الدعوة للجهاد المقدس الى الالتباسات الشرقية القديمة التي حاول المسيحيون منذ زمن بني عثمان، منذ نصف قرن إبطالها!
ولكن الحال كانت أعظم من الحيلة، والنكبة أعظم من المكنة، ولذا فقد تبلبلت المفاهيم واختلطت الأوراق وظهرت المفارقات في السياسة والإجتماع والإقتصاد والعقائد، فأصبحنا لا ندرك ما معنى القوم، ما معنى الوطن، ما معنى الأمة، ما معانيها، ما ارتباطاتها ما محتوياتها، ولا تزال المصيبة قائمة علينا، وإذ يتطلع المسيحي اليوم الى هذه القومية أو ما يشابهها يجد نفسه ملقى في خضم من المتناقضات والأهواء والآراء، يبحث عن موقعه فلا يجد موقعه واضحاً في شرق لبست عليه مسالكه. هذا الشرق لا يزال على رغم ذلك، على رغم المصائب واثقاً في أعماقه من ذاته، إيمانه أمان، إسلامه سلام، ونفسه كأنها مطمئنة راضية.
أما المسيحي وسط هذا الرضى يعاوده التمزّق الذي فرضه عليه قدره اللاهوتي والإنساني. بالأمس قاده القلق والإضطراب الى الاستنباط فالإبداع في العلم والفن والسياسة والدين والإجتماع. أترى هذا القلق الماضي نفسه يؤدي به اليوم الى الجزع والفزع، أباطلاً ما جرب بالأمس واليوم يكاد يتوب عن محاولاته كلها توبة كاملة ويتآكله التشاؤم، ويتطلع، فإذا ماضيه حرقة ومستقبلة عبقة، أما الحاضر فعلقة علقناها. تعاوده تجربتان : التجربتان اللتان ما برحتا منذ البدء تتنازعانه، إما الإنسحاب حتى الإغتراب وإما الإلتزام حتى انعدام الذات، وأسسوا الحالين هو ثالثهما، تلك الوقفة البليدة، الحيادية، الباطلة التي يقفها بعض المسيحيين وتقفها الكنيسة بعض الأحيان كمجموعة لا تعرف أن تواجه الواقع برمته ولا تعرف أن تتنبأ عن أحداثه.
أتراها هذه الوقفة الكنسية المسيحية حكمة؟ كلا. أتراها فعل ثقة؟ كلا، لا، لأن المسيح لم يوصِ بالإحجام بل بالإقدام حتى الموت، ولك يوظف تباعه نواطير على الأوقاف والرعايا والسجلات والإدارات. إذا كانت اللامبالاة شللاً فالإنسحاب هو جبانة والذوبان هو استقالة، والمواقف الثلاثة جميعها لا تنتسب الى المسيحية في الشرق، ولا الى عقيدة الإنجيل، ولا الى مثل المسيح. نعرف أن المسيحية هي الحضور كما حضر المسيح وسط هذا العالم، أو بتعبير آخر المسيحية هي تجسد، تدرّع بجسد، تطوّع لخلاص التاريخ، تبرّع بالدم للفداء، كذا المسيح تجسد وتدرّع وتطوّع وتبرّع باللاهوت على ناسوتنا. وبولس الرسول كمعلمه فهم ذلك يوم قال المسيحي هو الذي يعرف أن يتجسد فيصير عبرانياً مع العبرانيين ويونانياً مع اليونانيين، أي أنه يقاسي محنة زمانه ومكانه لينهض بالزمن الى الأبد وبالإنسان الى الله. والموقف المسيحي الصارم هو في هذا التجسد حتى النزول الى جحيم الأرض وجحيم العذاب وفي هذا البعث حتى المجد…؟ فكيف ينعم بطمأنينة والناس حوله معذبون؟ وكيف يكمل طريقه خالي البال والحق كالسامري جريح والعدالة مصلوبة على الصليب مع الحرية؟ تجسده، تجسد المسيحي لا يعني أن ينتحب ويعزي في المآتم ولا أن يهلل ويصفق في المغانم. إنها وظيفة البكائين أو المهرجين أو الانتهازيين أو الاستخزائيين. عليه أن يكون في مقدمة المتطوعين، في طليعة الناهضين وكرامته على رأسه، لا طمعاً بأمجاد الأوليات الباطلة، بل لينسجم مع يقينه ومع مسيحه الميت الحي أبداً ليحرر الإنسان من الشر والموت، ليحرر الحرية من الإنسان.
حفظ المسيحي في هذا الشرق لمقصد أسمى من القوميات البائسة والوطنيات الضيقة، تجسده تأنسه هو لا تقوقع بل صراع، صراع روحي يواجه كل ردة تحركها العرقيات والقوميات، يقول لا لهذا، عليه أن يجابه الوحدويات مجمعية كانت أم اعتزالية التي تعزل الإنسان وتقضي على التعدد والشمول، ولا بد له أن يحلم في مقاصده الشمولية النابعة من إنجيله، من يقينه الإنجيلي لا بد له من حلم، حلم بيوم يجيء، يوم المعجزة العظيمة، يوم الفصح، أي يوم العبور الى الإنسان الجديد القادم، يوم يكون لبنان الكبير وفلسطين الجديدة وإسرائيل الحقيقية. يكون واحداً هذا اللبنان من ثالوث موحد، موحد الذات، مثلث الصفات، حول القدس عاصمة الحقيقة والمحبة فيعلق المسلمون سيوفهم في الشجر كما ورد في الأحاديث، وتصبح الرماح أسكة للحراثة كما يقول النبي في التوراة ويتكىء جميع المدعوين الى وليمة الإخاء كما يقول الإنجيل.
وبما أن هذه البشائر لا تدعو بعد الى التفاؤل فلدى المسيحي إذاً بعد مواجهات ومجابهات قبل أن ينهض الشرق الى مستوى ما نعلنه بالإيمان الآن، نعلنه بالقصد والعمل من إخوّة ومودة بين الحضارات والأديان والأعراق هنا. وإذا كان من إنسحاب أو اغتراب لأن البشائر لم تتحقق وطال عهد تحقيقها، وإذا كان من انسحاب أو اغتراب فهو الى طليعة هذه المستقبلات لا الى مناخات الإعتزال الموبوءة طمعاً بالطمأنينة المسوّسة وحفاظاً على موارث ماضية، المهم عندنا هو الحفاظ على هذا المستقبل، على هذا المسيح الآتي.
تخبر السيرة النبويّة عن الملاك الذي كلف بشرح الصدر النبوي ليلة الإسراء قبل العروج الى القدس، قبِل المعراج الى السماء ولا يزال الشرق في حاجة الى من يشرح صدره ويستخرج منه كل علقة سوداء ليستطيع أن يسري ليلاً أو نهاراً في معراج جديد لا صوب العيوب بل صوب الحضور في قلب التاريخ.
ولكن أيوجد ملاك، هل من ملاك، هل تكون المسيحية هذا الملاك، ما هو نصيبنا؟ يوجد هناك شياطين الهلاك، حتم على المسيحي الصادق اليوم أن يعيش عمره ثلاثة أعمار، يحضر في أمسه ليتعلم منه ويعلم غيره، ليتعلم من الماضي أمثولة الإبداع والجسارة، ويحضر في حاضر الشرق العربي اليوم ليقاسي معه أسبوع آلامه، ويحضر في المستقبل ليعرف المسيح، ليسبق كالمسيح أصحابه الى موعد القيامة. إذهبوا فهناك سبقكم المعلم ونحن إثره راحلون.

المسيرة - 8 تشرين الثاني 2010
Next
رسالة أحدث
Previous
This is the last post.

إرسال تعليق

 
Top