0
يغيب عن الرأي العام ما يفعله الرؤساء وصنّاع القرار السياسي في سرّهم، أي في كواليسهم الخاصة، حيث لا كاميرات ولا إعلام وإعلاميين. يظنّ هذا الرأي العام أنّ الرؤساء يُطلقون المواقف الإستثنائية باجتهاد شخصي ناتج عن قوّة فوق العادة... لكنّ الواقع أنّ لدى الرؤساء الذي يتلاحقون على السلطة في لبنان دائماً مَن يستشيرونهم من خارج "البلاط" ومن داخل صفحات الكتب والدفاتر القديمة لرؤساء أسلافهم ودستوريين ومراجع مخضرمة رافقت مراحل شبيهة.


فؤاد شهاب "رهبة" لدى مَن يتعاقب على رئاسة الجمهورية من شخصيات، من أيّ طينة كانت، فيسعون بالقدر الممكن إلى القراءة في كتابه وشخصيّته لأنّ نظرته إلى السلطة تناقضت تماماً مع باقي السياسيين. 


في لحظة الفساد، يقرأون في كتابه فيقوى الفساد عليهم ويعجزون عن التطبيق. في لحظة الأمن، يقرأون ويُحاولون التشبّه بمَن أسس الجيش. في لحظة الأزمات الإقتصادية، تخرج الأرقام والمؤشّرات عن سيطرتهم ويفشلون. وكذلك الأمر عند تشكيل الحكومات وإصدار التعيينات والعلاقة مع الدول العربية والغربية. 


بين الخمسينات وأعوام الـ2000، لا مجال للمقارنة بين رؤساء وظواهر شعبية ورجال دولة. الطبقة والظروف ومعايير المعارضة والموالاة والتوجّهات الدولية، كلّها مختلفة... حتى عناوين الصحف فقدت تأثيرها.


إلاّ أنّ الممارسة بقيت موروثة ولم تتغيّر، إلاّ للأسوأ. فصحيح أنّ خلافاً عميقاً كان يفصل الشهابية والشمعونية وأنّ الصراع لامس "كسر الرؤوس"، لكنّ وسائل المواجهة لم تنحرف نحو "نائب بالناقص ووزير بالزايد" للدخول إلى الحكومات بأكبر عدد من الحقائب الوزارية ونقل الصراع إلى الداخل، علماً أنّ عدد الوزراء لم يتعدَّ الـ9 من أقطاب وتكنوقراطيين، وتقلّص في حكومة العهد الثانية إلى 4 (رشيد كرامي، بيار الجميّل، ريمون إده، وحسين العويني). ومع ذلك، حضرت العرقلة والإعتراضات على خيارات فؤاد شهاب ما أدّى به أكثر من مرّة إلى تطيير جلسات مجلس الوزراء وتسمية القوى السياسية بـ"أكلة جبنة" والدولة بـ"البقرة الحلوب".


أمّا لدى سماعِك اليوم حديثاً عن ربط تأليف الحكومة برئاسة الجمهورية قبل 4 سنوات على انتهاء العهد، فتسأل عن شهاب الذي تلقّى قبل أكثر من سنة على انتهاء عهد كميل شمعون عروضاً دوليّة من رؤساء وسفراء لانتخابه رئيساً، سرعان ما تحوّلت إلى محاولات لإقناعه بفرض الأمر الواقع، فكان الرفض ثلاث مرات لعلمه بصعوبة ما ينتظر البلاد.

وعندما يتكلّمون عن الفساد في الـ2018، تسأل من أين يبدأ هذا الفساد وأين ينتهي؟ فتجد الجواب لدى الرئيس اللواء الذي لم تحتج مكافحة الفساد وإجراء الإصلاحات لديه إلى وزارة دولة لا تملك صلاحية لمحاسبة فاسد في الإدارة ومعاقبة متجاوز للقانون، بل إلى جهاز تفتيش مركزي يتحكّم بالضغوط السياسية وليس العكس. 


كما أنّ الجواب أيضاً عند القاضي فؤاد بطرس الذي جذب اللواء شهاب باستقلاليته القضائية التي كانت سبباً للّقاء الأوّل... وقصص أخرى مماثلة لا تحملها سطور مقال.


وعندما تقرأ عن "عقدة" وتوتّر مع الدروز، يلمّح إليك العهد الشهابي بالحقبة التي طمأنت الدروز، حين تسلّم كمال جنبلاط ثلاث حقائب وزارية (التربية، الأشغال والتصميم، والداخلية)، الأمر الذي طمأن قيادات "الحزب التقدمي الإشتراكي" لرئاسة شهاب رغم عدم اقتناع الأغلبية بنهج الرجل سابقاً. في وقت شغل مجيد أرسلان حقيبة الدفاع لمرّتين في العهد، ووزارة الزراعة مرّة.
والأكثر أهمية، أنّ معارضي شهاب شكّلوا ضمانةً لعهده، حيث ينقل مقرّبون عنه في تلك الفترة القول "يا ريت كل الخصوم متل ريمون إده"، في إشارة إلى إنتاجيّته وزارةً ونيابةً وابتعاده عن الكيدية في ممارسة المعارضة.


تعاطى الرجل بواقعيّة مع عهده، إلى حدود القول ما حرفيّته: "لستُ أنا مَن انتخب اللبنانيون، فأنا لا أمثّل سوى استحالة اتفاقهم على شخص آخر". ربّما كان عليه الردّ على خصومه بالأسلوب نفسه، عبر تجنيد الصحف والصحفيين لإدارة حملات إعلامية شرسة، لكنّه لم يلجأ للرد مرّة. حتّى أنه أتلف مذكّراته، وترك عبرةً سياسيّة من أوائل الستينات لما يتبعها من سنوات حين قال لوزير الخارجية فؤاد بطرس الذي حاول إقناعه بالعودة إلى القصر: "لا أريد العودة إلى الرئاسة، فلا أنا ولا سواي سيكون قادراً على تحمّل ما تنتظره البلاد أو صنع الأعجوبة المستحيلة". 


لعلّ في ٢٣ أيلول، تاريخ انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً، استعادة للصورة التي يسلّم فيها سيف التخرج للضابط التلميذ ميشال عون الذي سيُصبح في العام ١٩٨٤ قائداً للجيش فحالة شعبية ورئيساً لتكتل نيابي لا يقلّ عن ٢٠ نائباً فرئيساً للجمهورية في العام ٢٠١٦... فماذا كان الرئيس اللواء ليقول للرئيس العماد مستقبلاً؟ وبماذا ينصحه اليوم بعد ٥ أشهر على تعثّر تأليف "حكومة العهد الأولى"؟

ريكاردو الشدياق - موقع mtv - 
22 أيلول 2018

إرسال تعليق

 
Top