0
على رغم "المهابة" التي حاول أركان السلطة إظهارها في مشهد الاستنفار الرسمي غير المسبوق لمواجهة أزمة الارتفاع الناري لسعر الدولار الأميركي ازاء الليرة اللبنانية غداة اشتعال الشارع غضباً وقلقاً واحتجاجاً على تفلت الواقع المالي فإن خلاصات، هذا الاستنفار ونتائجه لم تقدم جديداً حاسماً فعلاً من شأنه ضمان احتواء الأزمة، أقله على مدى متوسط، كما لم تسقط الصراع السياسي الذي اختبأ وراء الاستنفار الذي دار حول مصير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وبرزت في هذا السياق معطيات جدية عن سيناريو ارتسمت معالمه منذ يومين وبدا معه أن ثمة اتجاهاً لدى العهد وقوى سياسية أخرى في الحكومة الى إقالة حاكم مصرف لبنان كثمن للتدهور الأخير لسعر الليرة، في حين أن هذا الاتجاه كان يرتبط عملياً بما وصف بإكمال عملية السيطرة لتحالف سياسي أحادي على حاكمية مصرف لبنان بحيث يُسقط الحاكم بعدما حوصر بالتعيينات المالية الأخيرة التي جاءت بأربعة نواب من ألوان سياسية مناهضة لسياساته كما للقوى التي تدعمه داخلياً وخارجياً. وتشير هذه المعطيات الى أن توقيت انفجار تطورات ارتفاع سعر صرف الدولار غداة صفقة التعيينات التي ظهرت عبرها السلطة في أسوأ صورها إطلاقاً أمام الرأي العام الداخلي كما الدولي رسم علامات شبهة كبيرة حيال هذه "المصادفة"، وإن يكن أركان الحكم والحكومة حاولوا أمس رمي كرة الانهيار الجديد الواسع لسعر الليرة ازاء الدولار على "مجهولين" من خصوم السلطة.
لكن الوقائع المتوافرة تكشف أن محاصرة حاكم مصرف لبنان وتصاعد حملة التهويل الاعلامية التي سبقت انعقاد جلستي مجلس الوزراء في السرايا قبل الظهر وفي قصر بعبدا بعد الظهر كانت لها الى مفاعيل بالغة السلبية انقسمت معها القوى الممثلة في الحكومة بعدما تصاعدت المخاوف من ارتدادات سلبية اضافية يصعب التكهن بحجمها الواسع في حال الاقدام على إقالة سلامة وتعريض الواقع المالي والنقدي والمصرفي لهزة خطيرة وعميقة لن تقف تداعياتها عند الحدود الداخلية بل ستتجاوزها الى أصداء خارجية قد تكتسب طابعاً شديد الخطورة أيضاً.
لذا تراجعت مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء الثانية كل الحملة والايحاءات التي كانت مركزة على حاكم مصرف لبنان، علماً أن وزراء تحدثت معهم "النهار" قبل الجلستين كانوا أفصحوا عن مخاوفهم من "كلمة السر" لإطاحة سلامة في الجلسة الثانية أي في قصر بعبدا وليس في السرايا. لذا شكّل الموقف الذي تعمد رئيس مجلس النواب نبيه بري أن يعلنه من بعبدا بالذات بعد الاجتماع الثلاثي الذي عقده رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس بري ورئيس الوزراء حسان دياب بيضة القبان الحاسمة في نزع موضوع إقالة سلامة من التداول كما في تهدئة الأسواق المالية ونزع الرهانات على ارتفاع جديد للدولار من المشهد المحتقن. وأعلن بري الاتفاق بين الرؤساء على:
أولاً: "خفض قيمة الدولار ازاء العملة اللبنانية ابتداء من اليوم (امس)، ولكن حقيقة سيبدأ ذلك من الاثنين، الى ما دون 4000 ليرة للدولار، وصولاً الى 3200 ليرة لبنانية للدولار. هذا الامر سوف يحصل. الموضوع الثاني الذي اتفق عليه، هو مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة، برعاية المجلس النيابي".
وسُئل هل تناول البحث إقالة حاكم مصرف لبنان، فأجاب: "نحن في حاجة اليوم الى جميع الناس، ولسنا في حاجة الى الاستغناء عنهم".
واستخدم مجلس الوزراء عبارة أنه "أخذ علماً بما أكده نقيب الصرافين في جلسة المجلس الصباحية لناحية التزام التعميم الصادر عن حاكم مصرف لبنان بتاريخ 2020/06/09 بما تعهده حاكم مصرف لبنان في تلك الجلسة والتزمه لجهة تأمين الضخ الفوري للعملة الاجنبية (الدولار الأميركي) في السوق المحلي بسعر ينخفض تدريجياً ويبدأ عند سعر صرف قدره 3,850 ليرة لبنانية للدولار الواحد لتتمكن المصارف والصرافين من البيع بسعر أقل من 4,000 ليرة لبنانية بما أكده أيضاً الحاكم في الجلسة عينها من أن التدفقات النقدية الى الحسابات في المصارف هي أموال جديدة (Fresh Money) يرعاها التعميم الصادر في هذا الخصوص عن مصرف لبنان برقم 554 تاريخ 2020/5/11". كما قرر تكليف وزيرة العدل "الطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن ما أثير ويُثار من وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة لإحداث التدني في أوراق النقد الوطني والذي أدى الى زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة". وقرّر تشكيل خلية أزمة برئاسة وزير المال "تكون مهمتها متابعة تطورات الوضعين المالي والنقدي وتطبيق القرارات، على أن تجتمع هذه الخلية في وزارة المال مرتين في الأسبوع على الأقل ويقدم من خلالها حاكم مصرف لبنان تقريراً مفصلاً عن تلك التطورات وترفع خلاصة عملها بشكل دوري الى رئيس مجلس الوزراء تمهيداً لعرض الموضوع على مجلس الوزراء".
وحذّرت مصادر سياسية ومالية عبر "النهار" من أن تكون الاجراءات الضاغطة لحمل مصرف لبنان على ضخ الدولار في السوق اللبنانية خطوة بالغة التهور نظراً الى الشكوك الكبيرة في إمكان ضبط الارتفاعات في سعر الدولار ضمن واقع الافتقار الكبير الى العملات الأجنبية وعدم تدفقها على لبنان أولاً ومن ثم نظراً الى الريبة الواسعة الكامنة وراء احتمال أن يشكّل ضخّ كميات ملموسة من الدولارات استنزافاً لاحتياط مصرف لبنان الذي يخصص الأولويات لاستيراد المواد الأساسية. أما الأخطر في تحفظات هذه المصادر عن الاجراءات التي تقرّرت أمس فتتمثل في تحذيرها من ازدياد عمليات تهريب العملات الاجنبية ولا سيما منها الدولار من الأسواق اللبنانية الى سوريا لمساندة النظام السوري بما يعني التضحية ببقايا الاحتياط النقدي اللبناني على مسرح لعبة سياسية شديدة الخطورة على لبنان. وقالت المصادر أن السلطة تذهب في اتجاه لن يضمن أي احتواء طويل الأمد للإستنزاف المالي وهي إجراءات أشبه ما تكون بلحس المبرد وسيظهر ذلك بسرعة لم يقدرها أصحاب الشأن في فرض هذه الاجراءات.
في غضون ذلك، توالت لليوم الثاني التظاهرات الشعبية وقطع متظاهرون الطرق في معظم المناطق اللبنانية احتجاجاً على الأوضاع المعيشية وسعر صرف الدولار. وكانت الاحتجاجات ليل الخميس - الجمعة تطورت الى أعمال شغب واسعة خصوصاً في منطقة اللعازارية حيث أحرق فرع مصرف لبنان والمهجر كما حطمت واجهات محال تجارية عدة.
وفي السياق نفسه، نفّذ عدد من المعتصمين وقفة احتجاجيّة أمام وزارة الداخلية ومصرف لبنان في الحمرا، وذلك استنكاراً لتردّي الأوضاع المعيشية وارتفاع سعر صرف الدولار، وذلك وسط انتشار كثيف للجيش وقوى الأمن الداخلي.
بينما نفّذ "حراك النبطية" اعتصاماً أمام خيمته قرب السرايا في المدينة احتجاجاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وارتفاع سعر الدولار. وتتجه الأنظار غدا الى ساحة الشهداء في بيروت حيث أطلقت جماعات ضمن الانتفاضة دعوات عدة لتجمع كبير.
وليل أمس تجددت عمليات قطع الطرق على نطاق واسع في المناطق وخصوصا في بيروت حيث قطعت طرق عدة واستعيد مشهد الشغب في منطقة اللعازرية على أيدي مجموعات من المتظاهرين اعتدت على ممتلكات خاصة وقامت قوى الامن برمي قنابل مسيلة للدموع لتفريقها.

النهار - 13 حزيران 2020

إرسال تعليق

 
Top