0
لا يستحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تشكيل جبهات سياسية وإعلامية ومذهبية ومالية واقتصادية للدفاع عنه وعن موقعه وعن الأدوار التي لعبها. ولكن، في المقابل، ليس مقبولا، لما فيه مصلحة مستقبل "بلاد الأرز"، أن يتم تحميله مسؤولية "خراب البصرة" و"سقوط القسطنطينية"، كما تحاول أن تفعله غالبية الفئات التي تتشكل منها الحكومة الحالية وهي التي أبقت هذا الرجل في منصبه، منذ العام 1993 حتى اليوم، بالتفاهم والتوافق والمشاركة.
لنعود، قليلا، إلى الوراء، ففي 24 مايو 2017 قرر مجلس الوزراء اللبناني الذي انعقد برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون إبقاء سلامة لست سنوات جديدة حاكما لمصرف لبنان، من دون أن يعترض أي وزير، وتاليا أي جهة سياسية، على ذلك، حتى قيل يومها أن أهمّ قرار خاص برسم السياسة المالية للعهد جرى اتخاذه في أقل من دقيقة واحدة.
ممّن كانت تشكل تلك الحكومة التي تجدد شبابها بعد الانتخابات النيابية واستمرت حتى استقالة رئيسها سعد الحريري، على إثر اندلاع ثورة 17 أكتوبر 2019؟
الحكومة التي منحت سلامة ولاية رابعة تندرج في قائمة ما يسمّى بحكومات "الوحدة الوطنية"، أي أنها كانت تجمع معارضي المس بسلامة اليوم، مثل تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، مع أركان الحكومة الحالية التي تقود الحملة ضد سلامة، مثل "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
فهل تغيّر سلامة حتى تتغيّر النظرة إليه؟
قبيل التجديد الرابع له، كان يقال عنه ما يقال اليوم، أي أنّ التجديد له جاء، وفق اللغة الجنائية، عمدا وعن سابق تصوّر وتصميم.
يومها أيضا كان سلامة "أميركيا"، وصاحب "الهندسات المالية"، و"حليف المصارف"، وأساسيا في "سياسات الثلاثين سنة الماضية"، وغير ذلك من الصفات التي تحتويها الحملات التي تستهدفه حاليا.
ولكن يومها أيضا، وفي ظل الإجماع السياسي عليه، فقد رياض سلامة "الحصانة" الشعبية، لأن كثيرين نظروا إليه على أنه جزء من صفقة "التسوية الرئاسية" التي أوصلت العماد ميشال عون، مرشح "حزب الله" الوحيد، إلى رئاسة الجمهورية، والمهندس المالي لمرحلة الإسقاط النهائي للدولة بقبضة الدويلة.
هؤلاء الذين أبعدوا أنفسهم عن رياض سلامة، في ضوء التجديد الرابع له، لم يفعلوا ذلك، إلا على أساس أن الرجل، ومن أجل الاستمرار في منصبه، وافق على تحويل السياسة المالية إلى خادمة عند "طبقة الصفقة" وملحقاتها الإقليمية، أي أنه وافق أن يكون جزءا من مسار يقدّر له أن يرمي اللبنانيين في الجحيم.
قد يكون رياض سلامة في ذلك قد أسقط "حاضنته الشعبية"، مثله مثل بعض كبار السياسيين، في فخ الوهم بإمكان شراء المناصب بالوقت، حتى تعود الأموال فتتدفق على لبنان، سواء من الدول التقليدية الداعمة، مثل المملكة العربية السعودية، أم من "أصدقاء لبنان" الذين كانوا يعملون على عقد مؤتمر دعم للبنان.
وكانت الصدمة الأولى في تلك اللامبالاة الخليجية بأزمة لبنان، بفعل الأدوار التي لعبها ويلعبها "حزب الله" ضدها لمصلحة إيران، في حين شكّل "مؤتمر سيدر" الباريسي الصدمة القاضية، عندما ربط فتح طرق التدفقات المالية على "بلاد الأرز"، ليس بإصلاحات بنيوية ناسفة للفساد والتراخي والفشل فحسب، بل بأبعاد سياسية سيادية تهدف إلى إعلاء شأن الدولة المستضعفة على الدويلة المستكبرة، أيضا.
ماذا يعني كل ذلك؟
هذا يعني ببساطة أن "تطيير" سلامة، سيزيد الأمور المعقدة تعقيدا، لأنه مثله مثل وضع الأحصنة وراء العربة، فيما المطلوب أن يتزامن تغيير أي شخص بتغيير النهج المسؤول عن التخريب.
فالعملة الوطنية لا تحميها الاستدانة، بل قوة الاقتصاد الجاذبة للعملات النادرة، وقوة الاقتصاد لا تخلقها شعارات رنّانة بل دولة قادرة، والدولة القادرة يستحيل أن يصنعها تحالف الطوائف والميليشيات، كما هي عليه الحال راهنا.
خطيئة رياض سلامة الأصلية أنه لم يضرب يوما يده على طاولة السياسيين، أو يوضّب أغراضه ويهدّد بالرحيل، إن استمرت الطبقة الحاكمة، بجزأيها الشرعي وغير الشرعي، في مسارها التدميري للبلاد والعباد.
خطيئته أنه بدل أن يفعل ذلك، ذهب يستقطب تمويلا لديمومة دويلتي الفساد والسلاح ويستجدي، بـ"دهاء الثعالب" رضاهما.
ولكنّ للدهاء حدودا. بدأت مفاعيله تتلاشى، في تلك اللحظة التي فجّر فيها "حزب الله" عبوته الناسفة أمام مقر "بلوم بنك" في فردان، فانتقلت الرقابة اللصيقة على حركة الأموال في المصارف، رويدا رويدا، من "ذاتية" لبنانية إلى خارجية صارمة. يومها، كان هذا الحزب قد انصاع لأوامر "الحرس الثوري الإيراني" وأصبح جزءا لا يتجزأ من حروبه في المنطقة، بدءا بسوريا، مرورا بالعراق، وصولا إلى اليمن.
وأنتج هذا الانصياع بداية النهاية للـ"موديل" المالي اللبناني، فتضاءلت السياحة وتوقف تدفق الأموال، وانحسرت المساعدات، وتقلّص النمو، وتضاعف الدين العام، وأسقطت واشنطن، بتوجيهها تهمة "تبييض أموال حزب الله"، مصرف "جمّال تراست بنك"، فانهار معه ما كان قد تبقى من ثقة بالنظام المصرفي اللبناني "الصاغر" أمام "منطق العنف"، وكانت... "الثورة".

وهكذا أصبح حجم "المال المحجوب" عن لبنان، وفق مصطلح معبّر يعتمده الرئيس ميشال سليمان، يفوق بنسب خيالية حجم "المال المنهوب".. ويقصد بـ"المال المحجوب" كل مال حالت وضعية الدولة المستضعفة دون إدخاله إلى "كعكة الاقتصاد"، بدءا بضرب القطاعات اللبنانية الجاذبة وارتفاع كلفة القرع المتواصل لطبول الحروب، مرورا بمعابر التهريب المحمية برا وجوا وبحرا، وصولا إلى منع وقف الهدر الكبير في موارد الدولة كما هي الحال في قطاع الكهرباء الذي كبّد لبنان، على يد من يخاصمون سلامة اليوم، أرقاما مذهلة تتراوح، وفق طريقة احتساب فوائدها، بين 45 مليار دولار أميركي و66 مليارا.

هذا المسار التخريبي، مثله مثل جبل الجليد الذي اصطدمت به سفينة "تايتانيك". جميع المعنيين حاولوا التستّر عليه معتقدين بإمكان احتوائه وسد الثغرات التي أحدثها في متن السفينة، ولكن سرعان ما اتضح أن الآمال ليست سوى أوهام.
والآن، يحاول كل طرف أن يلصق التهمة بالآخر، والجميع من دون استثناء يفتّش عن "كبش محرقة".
اعتقد "الحكوميون" بأن رأس رياض سلامة "بيّيع"، ولكنهم اكتشفوا أن "الإتجار" به محفوف بالمخاطر، لألف سبب وسبب، ولعل أهم هذه الأسباب أن ما كان سابقا يدعوهم إلى استجداء خدماته، هو نفسه ما يحميه منهم حاليا، كما تبيّن لهم أن إمكان فصل أنفسهم عنه مستحيل، فإسقاطه يعني إسقاطهم معه.
وبدل أن يذهبوا بتهديداتهم ضده إلى خواتيمها، رموا برئيس الحكومة حسّان دياب، وهو شخصية نرجسية، قليلة الخبرة، تخلط بين كثرة الحركة والنشاط، ولاهثة إلى المَكانة، بعدما زنّروه بـ"خطاب ناسف"، مكتوب بعناية أحد فلول النظام اللبناني ـ السوري.
المفاجئ، أن هذا الخطاب بدل أن ينال من رياض سلامة نال من الحكومة ورعاتها، فانفضح ليس عجزها فحسب بل مدى خطورة ما ترتكبه من حماقات أيضا، إذ أن كل حكومة، في أي دولة في العالم، تهاجم حاكم المصرف المركزي وسياسته وتنال من استقامته وحياديته، من دون أن تطيح به فورا، إنما تأتي على آخر ما يمكن أن يكون قد تبقى لهذه الدولة من مكانة في الأسواق المالية وفي المؤسسات الدولية.
وحدها الحكومات القاصرة والتافهة تلجأ، في مواضيع بهذه الحساسية، إلى القدح والذم وافتراض الفضائح. إن مطلب إنهاء خدمات رياض سلامة على رأس مصرف لبنان قد يكون مشروعا، ولكن لا قيمة له إذا لم يسبقه "تطيير" من سخّروا الاقتصاد لخدمة السياسة، وفي مقدمهم "مستغلي الكهرباء"، أي فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، والمسؤول الأكبر عن "المال المحجوب"، أي "حزب الله".

فارس خشّان - الحرة - 27-4-2020

إرسال تعليق

 
Top