0
الإنفجار يوشِك أن يحصل، ووجع الناس مُتزايد، وما يفوق ذلك وَجعهم ‏من السلطة الحاكمة، التي تبدو مهاجرة وتعيش في كوكب آخر، ‏مستقيلة من مسؤولياتها ومن أبسط واجباتها، وتعطي أذنها الطرشاء ‏لصرخات الناس، فلا تسمع سوى ما يُدغدغ مصالحها وجيوبها ويحمي ‏محمياتها، وامّا الناس فليجرفهم الطوفان مع لقمة عيشهم وقوت ‏أبنائهم. ولعل الصورة التي رَسمتها التحركات في الشارع أمس، ‏عبّرت، ولَو بشكل خجول، عمّا يختلج في نفوس اللبنانيين من وجع، ‏وجاءت على شكل إنذار مُبكر على ما قد سيحصل في مواجهة ‏المسبّبين بهذا الوجع، فإنها في دولة تحترم نفسها، يفترض أن تجعل ‏القيّمين عليها والمتنعّمين بملذاتها، يغادرون صالوناتهم الفخمة، ‏وينزلون الى الناس لتَحسّس وجعهم، ولكن ما يدفع الى الاسف انه ‏مع هذه السلطة الحاكمة لا حياة لمَن تنادي‎.‎
صورة الداخل تعجّ بالكثير من مسبّبات القلق؛ فالصالونات السياسية غارقة بكلام ‏اتهامي للطاقم الحاكم، وقد وقفت "الجمهورية" من مسؤولين كبار، على عيّنات ‏من هذا الكلام‎:‎
أولاً: "الأمر المُستغرَب، أن يقول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بعد عودته ‏من نيويورك، انه ليس عارفاً بما حصل اثناء غيابه، فهل ما حصل كان خافياً عنه قبل ‏السفر؟ ولماذا قال ما قاله ولمَن توجّه بكلامه؟".
ثانياً: "ما يجري يؤكّد انّ البلد يتعرّض لمؤامرة، لا نقول من الخارج بل مؤامرة من ‏الداخل، تديرها غرف سوداء، بمنطق إلغائي يستعيد بطريقة فظّة خطاباً يستنفِر ‏العصبيات والطوائف، ويجري توظيفه في قلب الازمة الاقتصادية، مقروناً بمحاولة ‏إثارة البلبلة الداخلية‎.. تارة عبر محاولة نسف العلاقات بين الرؤساء، وتحديداً بين عون ورئيس مجلس ‏النواب نبيه بري.. ‎تارة أخرى عبر كلام عابر للقارّات يتحدث عن شراكة أطراف معيّنين في الحكومة ‏في محاولة إحداث فتنة اقتصادية، وقبله كلام آخر عن اتّهام جهات لبنانية ‏بالشراكة مع الاميركيين بفرض عقوبات على "حزب الله".. تارة ثالثة عبر ترجمات لطموحات رئاسية، تترافَق بتصويب عبر وسائل التواصل ‏الاجتماعي على بعض الاسماء، كقائد الجيش العماد جوزف عون، وحاكم مصرف ‏لبنان رياض سلامة، وبترويج حديث خطير عن لقاء سلبي، لم يحصل أصلاً، بين ‏بري وسلامة، والمتابعون يعرفون انّ آخر لقاء بينهما كان قبل نحو 20 يوماً‎.‎
التصويب على قائد الجيش ينعكس سلباً بالتأكيد على المؤسسة العسكرية ‏وعلى الاستقرار، امّا التصويب على سلامة في هذا الوقت بالذات، فهو، على ما ‏يقول مسؤول كبير لـ"الجمهورية": "تصويب خطير ومَشبوه، وهدفه الضغط على ‏الاقتصاد والليرة وافتعال مشكلة كبرى في البلد"، علماً انّ البطريرك الماروني ‏الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قد أكد في قداس الاحد، في بكركي أمس، ‏‏"انه من غير المقبول التصويب على مصرف لبنان، برئاسة حاكمه، ووَصف الحملة ‏التي تَطال الجيش بالمُريبة"، داعياً اللبنانيين المُخلصين "لتجديد ثقتهم المطلقة ‏به، قائداً ومؤسسة وعقيدة وطنية".
ثالثاً: الأمر المقلق، في موازاة محاولة الارباك السياسي، هو الحديث عن ‏تدريبات عسكرية لبعض القوى السياسية، بالتوازي مع تحركات مماثلة على ما ‏حصل مع العراضة العسكرية التي قام بها الحزب "القومي" في شارع الحمراء في ‏بيروت قبل أيام‎.‎
‎رابعاً: شركاء الحكم يَتغنّون انّ الاستقرار الاقتصادي يبقى العنصر المانع لأيّ ‏انفجار. وبالتالي، لا مجال لإهدار مزيد من الوقت والفرَص، لكن هذا الكلام لا يقترن ‏مع اي أفعال‎.‎ 
خامساً: "الأمر المستغرب هو ان يسكت الشركاء في الحكومة ولا يقومون بأيّ ‏مبادرة إنقاذية".
‎سادساً: المشكلة الراهنة ليست في الاقتصاد فقط، بل في الحكومة. فأين ‏هي؟ هل نسيت اسمها "حكومة الى العمل"؟ أين حالة طوارىء اقتصادية؟ لماذا ‏إهمال خطوات المعالجة التي اتفق عليها في بعبدا؟ ولماذا عودة التَلهّي المُريب ‏في موضوع البواخر؟ هل هنا يكمن الحل ام تكمن السَمسرة والمكاسب؟ وها قد ‏عدنا الى النغمة السابقة، والاستغراب يسود دائرة المناقصات من تحوير دفاتر ‏شروط معامل الطاقة الى اللجنة الوزارية خلافاً لأحكام القانون 129 / 2019، ‏ومحاضره وأسبابه الموجبة وقانون المحاسبة العمومية‎!‎
إزاء ذلك، يسأل المسؤول الكبير عبر "الجمهورية": ماذا تنتظر الحكومة لتتدخّل؟! ‏هل نستورد حكومة من الخارج ونقول لها تفضلي انقذي البلد؟ إذا كان هناك من ‏هو مطمئنّ لوضعه نقول له البلد لا يستطيع ان يُكمل بهذه الطريقة وبهذه العقلية. ‏لا يوجد احد أغلى من البلد، هناك انعدام كامل للثقة بالحكومة وبالسلطة بشكل ‏عام، وعندما تسقط هذه الثقة فهل يبقى شيء"؟‎.‎
واقع لا يبشّر
الى ذلك، الواضع الداخلي لا يبشّر؛ سعر الدولار في السوق الرسمية ثابت، لكنه ‏غير متوافر سوى على الورق، في حين أنّ سعره في سوق الصيرفة يواصل ‏الارتفاع، ومن غير الواضح السقف الذي سيبلغه، والمعطيات تشير الى انّ هذه ‏السوق ستصبح سوقاً رديفة دائمة، وسيكون السعر الفعلي للدولار هو السعر ‏القائم في السوق‎.‎
النزول الجزئي للمواطنين الى الشارع امس، واللافت فيه عدم المشاركة الحزبية ‏سواء الموالية او المعارضة للحكومة، وشَملَ مناطق في بيروت وتحديداً في ‏ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت وبعض الطرقات المؤدية اليها، ‏وايضاً مناطق في البقاع والشمال، وترافقَ مع محاولة قطع طرقات وحرق إطارات‎.‎
واذا كان النزول الى الشارع يشكل رداً غاضباً على تَردّي الاوضاع، الّا انّ لغة ‏الشارع هي الأصعب ويمكن ان تَجرّ الى فوضى غير محسوبة، قد تستحيل معها ‏قدرة الامساك بالوضع ومنع انحداره الى منزلقات خطيرة، خصوصاً اذا ما جرى ‏استغلالها من قبل بعض الخبثاء لأخذ الامور في الاتجاه الذي يخدم الفتنة. ‏وبالتالي، تستطيع الناس ان تسمع صوتها، ولكن ليس بالتكسير والتحطيم وإغلاق ‏الطرقات وشَلّ البلد، والسلطة وحدها مسؤولة عن منع الانهيار، الا اذا أصَرّت على ‏ان تبقى مقيمة خارج حدود المسؤولية ومستوطِنة، بإقامة دائمة، في مستعمرة ‏العَجز‎.‎
حمادة
وقال النائب مروان حمادة لـ"الجمهورية": المشهد اليوم هو النتيجة الحتميّة ‏للإدارة التي تحكّمت بالبلاد بفضل تسوية 2016، وأمعنت في الإنحراف نحو ‏الخيارات الخاطئة في السياسة عبر التخلي عن النأي بالنفس، وفي الاقتصاد عبر ‏اللجوء الى فريق فاشل". كل ذلك، تحت شعار "التغيير والإصلاح" والادعاء بأبوّة ‏الجميع‎.‎
أضاف: "مَن تظاهَرَ من اللبنانيين؟ إنتفضوا ضدّ العهد، والحكومة التي ادّعى رئيس ‏الجمهورية أنها ستكون حكومة العهد الأولى، وبالمجلس الذي تمخّض عن قانون ‏إنتخابات هجين، وبالسياسات الخارجية الحمقاء، قطع رزق لبنان، وبالتالي أرزاق ‏اللبنانيين. فلهذه الأسباب نزلوا الى الشارع وسيعاودون النزول حتماً، إلّا اذا صَحّح ‏العهد خياراته وممارساته، وأنا أستبعِد ذلك، إنّه تأخّر".
القوات‎ اللبنانية‎
وقالت مصادر "القوات اللبنانية" لـ "الجمهورية" انّ "انتفاضة الناس متوقّعة لأنّ ‏الواقع الإقتصادي والمالي سيئ للغاية، ومن حقّ الناس أن ترفع الصوت عالياً ‏لتضغط على السلطة للتسريع في معالجة الأزمة المعيشية والحياتية‎".
واعتبرت المصادر أنه "لا يحقّ لأحد أن يمس بالأمن والاستقرار، الشَغب ممنوع، ‏التظاهر حقّ مكفول بالدستور، التخريب خط أحمر، واذا كان على القوى الأمنية أن ‏تحترم حقّ الناس بالتظاهر فعلى الناس أيضا أن تحترم الاستقرار، وأن لا تسمح ‏لدخول قوى ومنظمات تمسّ بالأمن والاستقرار‎".
إرباك الأسعار
على أنّ الايام الآتية لا تبدو انها قد تحمل ما يُطمئِن، بل ثمة إجماع لدى الخبراء ‏الاقتصاديين على انّ الصورة قاتمة، ويُخشى ان تحمل ما قد يكون موجعاً أكثر ‏للمواطنين. خصوصاً انّ ارتفاع سعر الدولار سيؤدّي حتماً الى ارتفاعات متتالية في ‏أسعار الاستهلاك. ومن خلال القرار الذي سيتخذه مصرف لبنان غداً، وما قد يقرّره ‏لاحقاً، تشير التقديرات الى انّ المواد التي سيشملها المركزي برعايته ‏‏(المحروقات والطحين والدواء حتى الآن)، هي المواد التي سيصبح سعرها ثابتاً، ‏في حين انّ كل المواد الاستهلاكية الاخرى سوف ترتفع اسعارها تماهياً مع سعر ‏الدولار في السوق الرديفة، وهذا يعني انّ القدرة الشرائية للمواطن سوف تبدأ ‏بالتآكل، بالنسبة نفسها التي سيرتفع فيها الدولار. وعندها، سيشعر المواطن ‏بثِقل الأزمة، وماذا يعني القول انه سيدفع ثمناً باهظاً لاستمرار الأزمة يفوق ‏بأضعاف الثمن الذي قد يدفعه في حال تمّ اتخاذ اجراءات موجِعة وواكبتها إجراءات ‏إصلاحية لخفض منسوب الفساد‎.‎
وزني
الى ذلك، أكد الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني مسؤولية الحكومة في معالجة ‏ما بَلغه الوضع المالي والاقتصادي‎. وقال لـ"الجمهورية": الدولار متوافر في المصارف وفي مصرف لبنان لحماية ‏الاستقرار النقدي، ولكن لبنان يواجه أزمة نقص سيولة بالدولار النقدي، وهذه ‏الأزمة تفاقمت بشكل غير طبيعي وأسبابها غير واضحة حتى لا نقول مشكوكاً ‏بأسبابها، منها‎:‎
السبب الاول: الارباك الذي حصل الاسبوع الماضي لدى المواطنين وأدّى الى ‏الطلب الكثيف على الدولار النقدي، والذي يقدّر بين مليار و800 مليون دولار وبين ‏ملياري دولار موجودة لدى المواطنين في منازلهم‎.‎
السبب الثاني: إرتفاع سعر الدولار الاسبوع الماضي هو جرّاء دخول ‏المستوردين الى سوق الصيرفة طلباً للدولار النقدي، وخاصة الذين يستوردون ‏المشتقات النفطية، والذين يحتاجون سنوياً لأكثر من ملياري دولار، ولديهم ‏الاستعداد الكامل لدفع سعر أعلى من اجل الحصول على الدولار‎.‎
السبب الثالث: المضاربات التي جرت في سوق الصيرفة، ومحاولة استغلالها ‏والاستفادة منها، وهذه مسألة طبيعية تحصل أينما كان‎.‎
السبب الرابع: البعد السياسي الداخلي والخارجي الذي أدّى دوراً كبيراً في ‏الضغوط على سوق الصيرفة، والى زيادة الارباك في الموضوع. ولكن، تجدر الاشارة ‏هنا الى انّ اجمالي العمليات في سوق الصيرفة لا تتجاوز 2 في المئة من إجمالي ‏العمليات المالية، بينما 98 في المئة من العمليات المالية تتم عبر القطاع ‏المصرفي‎.‎
ورداً على سؤال عن كيفية العلاج، قال: الخطوة الاساسية هي معالجة السبب ‏الرئيسي الذي ساهَم في البلبلة وارتفاع الاسعار ومسألة استيراد المشتقات ‏النفطية، واجتماع الثلثاء سيركّز على مساهمة مصرف لبنان أو دخوله في تأمين ‏الدولارات للمستوردين. أولاً للمحروقات والمشتقّات النفطية التي تبلغ ملياري ‏دولار تقريباً، وثانياً للطحين الذي تبلغ كلفته مليار دولار تقريباً، وثالثاً من أجل الدواء ‏الذي تبلغ كلفته ملياراً و300 مليون دولار تقريباً. وبالتالي، مصرف لبنان لن يتمكن ‏من تأمين كل هذه الاموال لأنها تستنزف بشكل كبير جداً احتياطاته بالعملات ‏الاجنبية، لكنه سيؤمّن جزءاً منها‎.‎
أضاف: من هنا نستطيع ان نقول انّ دور مصرف لبنان لم يعد فقط حماية الاستقرار ‏النقدي، بل الظروف فرضَت عليه ان يؤمّن ايضاً تمويل احتياجات الاقتصاد. وهذا ‏ليس أمراً صحياً لمصرف لبنان، لأنه يستنزف من احتياطاته. لذلك، على الحكومة ‏في هذا الاطار ألّا تتنصّل من مسؤولياتها، وأن تقوم بإجراءات سريعة تُعيد الثقة ‏الى الاقتصاد والى الوضع المالي والنقدي. واستعادة الثقة تبدأ‎:‎
اولاً: بالمعالجة الفورية ومن دون تأخير لملف الكهرباء الذي يستنزف لبنان أكثر من ‏ملياري دولار سنوياً‎.
ثانياً: إقرار موازنة إصلاحية فعلية حقيقية بشكل سريع جداً‎.‎
ثالثا: الاستفادة من موضوع "سيدر" الذي يؤمّن تدفقات مالية بالعملة الاجنبية‎.
رابعاً: الاستفادة من مسألة بدء التنقيب عن النفط والغاز مطلع كانون الاول 2019‏‎.

الجمهورية - 30 أيلول 2019

إرسال تعليق

 
Top