0
القمة العربية «البـتراء» التي عُقدت في بيروت منذ أيام، والتي ضجَّت بها الأقلام وكثُـرَ حولها الكلام، لم يلفتـني فيها انخفاض حجم العباءات وسموّ المقامات، ولا الذين حضروا، ولا الذين غابوا، ولا الذين «خافوا على العار أنْ يُمْحى..». ولم يدهشني المقعد السوري الشاغر، ولا «تغييب» الوفد الليبي، بقدر ما حزنتُ على ما آلَـتْ إليه أحوال العرب، بعد انقضاء 1300 سنة على عصر الإسلام، وقد انخطَف التطور العربي ارتداداً الى العصر الجاهلي الذي أطلق عليه القرآن إسم «الجاهلية» بسبب تفشّي الكفر والجهل وانتشار العداوات وسفك الدماء.
لعلّ أمـير قطـر الشيخ تميـم بـن حمد آل ثاني، أنـقذ بعض ما كان في الجاهلية من مآثـر الكرم والمروءة وبذل النفس في الحفاظ على قريبٍ أو جارٍ أو مستجير.
تلك الملاحظات الكلاسيكية التي تناولت القمة العربية، لم تكن تحمل مفاجآت غريبة، ولا تلك المداخلات التي تشوَّهت فيها لغةُ العرب على لسان العرب، ولم يكن حظُّها على لسان اللبنانيين أفضل.
لعلّ تلعـثُم اللسان العربي يعود الى ما عنـاهُ أحد الحكماء الخبثاء: «يقضي الإنسان العربي سنواته الأولى في تعلّم لغة النطق، ويبقى بقية عمره يتعلّم من الأنظمة العربية لغة الصمت...»
المفارقة الساطعة أو الجاذبة التي تميزت في مشاهدات القمة العربية، هي ورود إسم جبران خليل جبران على لسان الرئيس ميشال عون، كما على لسان الدكتور محمود محي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي.
قال الرئيس عون: «يقول أديبنا ومفكِّرُنا الكبير جبران خليل جبران: «ويـلٌ لأمـةٍ تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر...»
أَنْ يستشهدَ الرئيس اللبناني ميشال عون بالمفكر اللبناني جبران خليل جبران، فليس في الأمر ما يدعو الى الإستغراب، ولا سيما أنَّ إسم جبران يتردّد على مسامع الرئيس مئات المرات يومياً وربما أكثر... ولأنّ الإسم بالإسم يُذْكر فلا بـدّ من أن أذكر، وأنا مَنْ سجّل على الوزير جبران باسيل الكثير من الهفوات السياسية والإنزلاقات، أنه كان في القمة يتحلّى بحنكة دبلوماسية، وحكمةٍ وفَّـقتْ بين السيادة والسياسة، وبين «النأي بالنفس» وعـدم النأي بالعقل.
وأما الدكتور محمود محي الدين فقد تباهى باستذكار المفكر اللبناني جبران خليل جبران، والشاعر اللبناني خليل مطران، كأنه يستحضر في قمة العرب ذلك اللبنان الذي كان درّة الزمان، وتلك الأقلام اللبنانية العريقة التي أحدثت انقلاباً حضارياً وثقافياً على مستوى العالم العربي، يوم كانت الأقلام تَكتب بالحـبرِ المذهَّب لا بطباشير تلامذة المدارس.
وما دام جبران هو الإسم الطاغي على مستوى القمم، فلا بـدَّ تعميماً للفائدة من الإستزادة استشهاداً بما قال: «لكم لبنانكم ولي لبناني، لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع... لبنانكم طوائف وأحزاب وحكومة ذات رؤوس لا عِـدادَ لها، وأبناء لبناني هم البناؤون والشعراء والفلاحون والذين يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العلم».
ذلك كان لبنانُ جبران منذ مئة عام ولا يزال هو هو بكل ما فيه من فوضى ومفاسد وتخلّف وطوائف وأحزاب، وحكومات ذات رؤوس لا عِـدادَ لها.
أين هـم اليوم أبناء لبنان «الجبرانيون» من العمال والفلاّحين والبنّائين والأدباء والشعراء والمفكرين، يطلقون هم نفـير الإصلاح والتغيير، وينصبون هم محكمة الشعب لمحاكمة الذين شوّهوا أمجاد لبنان وحطّموا آمال الشعب وظلموا الشعب باسم الشعب.
ولأن سلطة التيجان ما كانت في التاريخ يوماً إلا أسيرة سلطة الفكر، فقد قامت على أثر حرب فيتنام محكمةٌ في باريس مؤلفة من الأدباء والمفكرين بقيادة جان بول سارتر لمحاكمة الولايات المتحدة على كل ما اقـتَرفته من مجازر في تلك الحرب، بما يؤكدّ أن محكمة المفكرين هي المسؤولة الأولى عن ردع طغيان السلاطين ومحاكمة المرتكبين.

جوزف الهاشم - الجمهورية 25 كانون الثاني 2019

إرسال تعليق

 
Top