0
أهم في ما "ميثاق 43" ولم ينفّذ هي عبارة: "لا شرق ولا غرب"، أي لا وحدة مع سوريا ولا لحماية فرنسا. فلو أن هذه العبارة التزمها اللبنانيون، مسيحيين ومسلمين، لما كان لبنان يعاني ما يعانيه من صراعات محاور على أرضه ومن انقسام اللبنانيين بين هذه المحاور ودفعهم ثمن ذلك من استقلالهم وسيادتهم وحرية قرارهم لا بل من اقتصادهم.


لذلك كان الراحل الكبير النائب والوزير السابق ادوار حنين أول من لفت الى أهمية هذه العبارة في الميثاق بقوله في محاضرة له ألقاها في 15 أيار 1961 بعنوان "تأملات لبنانية بعد العاصفة": "لا حاجة الى نظام جديد أو تبديل في النظام. فالنظام لا يظهر قوياً شديداً قاسياً إلّا عندما يطبّق ويحمي، وعندما يطبّق على جميع المواطنين ولحماية جميع المواطنين أفراداً وجماعات ومؤسّسات. نظام مستمد من تاريخ الشعب وتقاليده، مفصّل على قدّه، راسخ ثابت متين، يكون التجاوز عنه والافتئات عليه تجاوزاً عن روح القومية". ويضيف: "ليس من العادة ان يُحترم دستور الأمّة المكتوب وأن لا يحترم دستور الأمّة المحتوم عليها من جرّاء تكوينها وكيانها وجميع مبرّرات وجودها. وليس من العادة أن يصير تغيير نظام الحكم كلّما أخفقت حكومة في تدبير شؤون الرعيّة. وليس من العادة أن يميَّز حكم محكمة التمييز أمام محكمة الشارع، بل العادة أن يُقتل القاتل عندما يقتل من دون عذر مقبول، وأن تُحترم ارادة الأمّة في دستورها المكتوب بدم الأمة، وأن تُبدّل حكومة بحكومة عندما تخفق الحكومة، وأن يُضرب الشارع عندما يرتجل نفسه محكمة على محكمة التمييز. ففي عالم حيث العالم يغش ويخدع من أجل أن ننقذ اللبنانيين الذين لم يحاولوا أن يغشّوا ويخدعوا، يجب أن نعود فنتعلّم أن نكون أشرافاً مع الكلمة وأمناء على مضامينها. وعندما نخلص في ما نبطن ونضمر، يصير سهلاً أن نخلص في ما نفكر وندير، ذلك أن الفكر يغرف ما في الباطن، فإن هو انطوى على خير كان التفكير خيراً، وإن هو انطوى على شر فشراً نكون".
 
ويتابع القول في محاضرته: "إننا نعيش منذ زمن على الكلمة المعصورة المقرقعة الخاوية التي حُررت من مفاهيمها وحملت غير مفاهيم، فلا هي من الكلمة في شيء ولا الكلمة منها في شيء، ولا هي من الحقيقة في المكان اللائق. ومن الكلام المقرقع الفارغ قولهم "مصيبة لبنان تعدّد طوائفه وأديانه"، فالدين والمصيبة كلمتان لا تلتقيان لأن الدين نعمة لا يستحقّها كل إنسان. ولولا الأديان لكان اللبناني أسوأ حالاً ممّا تبدو اليوم حاله. فضمير الدين وحده يستطيع أن ينقذ لبنان من شروره وآلامه. فليست الأديان والطوائف هي التي تفرّق بين اللبنانيّين وتزيد من منازعاتهم إنّما هو مراد النفوس وأهواؤها وطيشها. فالمسلم المسلم أقرب الى المسيحي المسيحي مما هو قرب المسلم الناقص ايمانه من المسلم المسلم أو المسيحي الناقص ايمانه من المسيحي المسيحي. فليس في كره المحمدي للمسيحي تمجيد لمحمد، ولا في كره المسيحي للمحمدي تمجيد للمسيح "فالخلق كلّهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله". ويختم حنين محاضرته بالقول: "إن أخشى ما أخشاه أن يكون الميثاق الذي ضُجّ به كثيراً في الأيام الأخيرة من فصيلة الكلام الذي فُرِّغ من معانيه فبات لا يعني ولا يفعل. فإذا جاز أن يكون ميثاق الأمة محكياً، غير مكتوب، فلا يجوز أن يتغيّر مفهوم هذا الميثاق بتغيّر الأشخاص. فميثاق اللبنانيين الذي أحسبه ميثاقاً إيجابيّاً متحرّكاً فاعلاً يجب أن يكون ميثاقاً قائماً على الحياد ليكون نعمة لأبنائه وللعالمين أجمعين، وأن يكون موطن المحبّة والكرم والحرية موطن الإنسان المتناغم العاقل، وملاذاً يلجأ إليه وبه يلوذ كل مضطهد فازع من بلاده إليه. فإذا لم يستطع أن يكون لبنان كذلك، فلن يستطيع أن يكون شيئاً غير ذلك. ومن أجل أن يكون كذلك يجب أن يكون ميثاقه ميثاق الحياد عن الشرق والغرب، حياد كامل صادق ومخلص، حياد يستتبع حياد الأرض اللبنانية، لا مقر ولا ممر، ويستتبع حياد الضمير اللبناني، لا انحياز ولا تحزّب، حياد يكون بالنسبة إلينا، حكومة وشعباً، كنجم القطب به نهتدي وعلى ضوئه نسير".
 
ومحاضرة حنين هذه لا بد من أن تذكّر بمحاضرة للراحل الكبير الرئيس صائب سلام في 17 نيسان 1961 قال فيها إن "الميثاق الوطني قام على حقائق من الخير نبرزها ونؤكّدها على الدوام وهي: لبنان لم يبق لطائفة أو طوائف معيّنة من أبنائه، بل أصبح للجميع على السواء، وانتفت عنه صفة الملجأ الديني واكتسب معنى الوطن... وان لبنان استقل بفضل الميثاق الوطني ونتيجة له، دولة سيدة حرة، أراضيه كل لا يتجزأ ولا يجوز لأحد أن يخرق حرمة حدوده أو يعبث بكيانه، وهو عضو في الأسرة العربية ويتعاون مع أعضائها في كل ما يؤول إلى خيرها ودفع الشر عنها".
 
فليعد مَنْ لا يفهمون حقيقة "الميثاق" الى أقوال الكبار في تاريخ لبنان ليظل حاضره يفتخر بماضيه ولا يخجل ماضيه من حاضره...


إميل خوري - "النهار" - 19 ايلول 2016

إرسال تعليق

 
Top