0
لا يحزن المرء على السنة التي تلفظ أنفاسها، ولو سمح له بشطبها من عمره فلن يتردد. لذة العيش أن يكون طبيعياً وحاراً وجميلاً وأن تكون المنغصات معقولة ومقبولة ومحتملة، والإقامة خلف الكمامات ليست عيشاً لذيذاً وإن كانت ضرورية، وليس ممتعاً تفادي المصافحات والعناق والتحلق حول الطاولات، الدفء البشري أرقى أنواع الدفء، يكاد يكون التعزية الوحيدة في هذا العالم المتوحش، عالم تتردد الأم فيه في معانقة أبنائها، وفي ضم أحفادها، وفي الاقتراب من جيرانها كأن أسلاكاً شائكة زُرعت بين كل إنسان ومحيطه وأقرب الناس إليه. الصداقة مع العزلة ليست صداقة، والمودة الحقيقية لا تنعقد مع الجدران. لم يخلق الإنسان ليرابط في وكره، وقدره كقدر الطيور أي الدوران والتحليق والاغتراب والرجوع. هذه المراوحة في المكان نفسه تذكر بأوجاع الأشجار المهددة بالانكسار.
في الأيام الأخيرة من السنة يراجع الإنسان حساباته، ويتفقد رصيده في مصرف المدينة ورصيده في مصرف العمر، ويسترجع رجل الأعمال حصيلة صفقات اغتُنمت وخيبات صفقات ضاعت، ويقلب السياسي آخر إحصاءات الشعبية واتجاهات الرأي العام وما استجد في علم التضليل، ويسأل الموظف عن غلاء المعيشة والحوافز ونصف الابتسامة التي يرتديها الرؤساء في نهاية العام لإحباط توقعات العاملين.
أفضل ما يفعله الصحافي في نهاية العام هو ألا ينخرط في مراجعة أحداث السنة المتوارية، ولو فعل لوجد الكثير من المشاهد الموجعة. سيوقعه استعراض الآلام في الإحباط، ويكفي الالتفات إلى تلك الجثث الهائمة في البحار لشبان يئسوا من الأوطان البخيلة أو الحكومات الفاشلة. الجثث التي عادت في اليومين الماضيين إلى أربيل بعدما عجز أصحابها عن بلوغ الأراضي البريطانية خير دليل. البحر غدار، يشبه البر وأشد وطأة. ويمكن أن تقود المراجعة الصحافي إلى التوقف عندما يدور داخل المثلث الأميركي – الروسي – الصيني واستحقاقاته المتوقعة في السنة الجديدة. ويمكن أيضاً أن تقود المفاوضات النووية الصحافي إلى التساؤل إلى متى سيعيش الشرق الأوسط على التوقيت الإيراني وما يحمله من رياح زعزعة الاستقرار؟
قلت أهرب من هذه المراجعة، ورتبت موعداً في الحديقة العامة مع جاري البريطاني ساكستون، الرجل الذي أمضى عمره سائحاً بين حدائق الموسيقى والأدب يعيش الآن وحيداً ولا يخرج إلا لجلب ما يرد الجوع ولا يعاشر إلا عكازه، خشيت على هذا الأوروبي المثقل بالألحان والعناوين الباهرة من فتك «كورونا» وغدر «أوميكرون».
«لست خائفاً من الموت. في بداية التسعينات يصبح تسلل هذا الزائر طبيعياً ومطروحاً بقوة، لكنني منزعج من احتمال أن أغادر هذه الأرض قبل أن تعلن انتصارها على الوباء وبالضربة القاضية. أعرف أن تاريخ العالم لم يكن وردياً على الإطلاق؛ حروب طاحنة؛ واجتياحات مدمرة؛ وإتلاف مدن وحضارات، القتل ضيف دائم في تاريخ البشرية، يكون مرة وليد قسوة بشرية، ويكون في كثير من الأحيان من نكبات الطبيعة نفسها».
وأضاف «أعرف تماماً أن (كورونا) لم يحتل بعد الموقع الأول في سلسلة الأوبئة القاتلة وأغلب الظن أنه لن يتمكن. عرف العالم أوبئة أوقعت عشرات ملايين الضحايا، الطاعون كان أشد هولاً من (كورونا) وفاقه بكثير في ارتكاباته. الإنفلونزا الإسبانية تسببت في القرن الماضي في وفاة خمسين مليون شخص وإصابة ربع سكان العالم. ينسى العالم أن الجدري تسبب قبل خمسمائة عام في وفاة 56 مليون شخص. كل هذا صحيح، لكن المذبحة الحالية أكثر إيلاماً لأنها تحصل بعد ذهاب الإنسان إلى القمر ونجاحه في فض أسرار كثيرة وبعد هذه الثورات العلمية والتكنولوجية التي ضاعفت ثقته بقدرته على مواجهة الأوبئة».
وقال ساكستون الذي خبر كصبي ويلات الحرب العالمية الثانية: «حرب (كورونا) أخطر وأشرس. في الحرب العالمية الثانية كان يمكنك الاحتماء في ملجأ أو خلف جدار. كان يمكنك الهروب إلى الريف، أو اللجوء إلى أرض محايدة أو غير مستهدفة. مع كورونا لا وجود لمناطق حصينة أو آمنة، وقد بلغ الموت أبعد الجزر في المحيطات. وفي الحرب الثانية كانت هناك جبهات من الأسلحة والرجال ومشاعر التضامن. وفي حرب كورونا دفع المرء إلى التحول جزيرة مذعورة. ولست خائفاً من قنبلة طائرة أو شظية صاروخ. إنك خائف من أنفاس ابنك أو شقيقك أو زميلك في العمل، كأن الخطر يقيم في كل مكان ويأتي من كل ما يتحرك حولك. في الحرب العالمية تثق بأن نتائج الاستنزاف ستظهر حتماً، وأن اسم العدو معروف وله عنوان، وأنه سيتقدم ذات يوم منهكاً للتوقيع على سلام أو استسلام أو هدنة. هذه الحسابات لا تصح مع عدو مجهول وبلا عنوان مثل (كورونا)».
لفت إلى أنه «في التسعينات يفترض بالمرء ألا يخاف من الموت. إنه استحقاق لا بد منه سواء بـ(كورونا) أو بغيره. المأساة هي هز ثقة البشرية بتقدمها وفرط عقد التضامن ونسف معالم العيش الطبيعي وتحويل الناس كائنات مذعورة تختبئ خلف الكمامات. أكثر ما أخشاه هو حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والتعليمية التي ستتكشف لاحقاً حين يهرم الوباء وتتراخى قبضته عن أعناق رهائنه. زيادة البطالة والفقر وتراكم مشاعر اليأس كلها ألغام ستنفجر في السنوات المقبلة».
طال الحديث، ولكن استوقفتني جملة أخيرة قالها التسعيني المجرب. كانت أسماء الأبطال لديَّ شتراوس وبيتهوفن وشوبان وموزارت ومعهم بلزاك وبروست وفلوبير وستندال، وكانوا يستحقون الإعجاب والألقاب، الآن أنا شديد الإعجاب بالأبطال الجدد المجهولين، الرجال والنساء الذين يقفون على خط التماس مع الوباء ويكافحون في المستشفيات لإنقاذ المصابين من قبضة القاتل المتسلسل. أمضيت عمري منبهراً بالموسيقيين والأدباء، لكن العالم في زمن الوباء لا ينقذه إلا العلماء والأطباء.
أعجبتني فكرة الأبطال الجدد، أعضاء الفريق الطبي الذين يكافحون في ظروف مؤلمة ويدفعون أحياناً حياتهم ثمناً لتفانيهم. خير ختام للعام أن ينحني العالم تقديراً للأبطال الجدد فلولا مثابرتهم لسجل القاتل المتسلسل أرقاماً قياسية في عدد ضحاياه وهي أصلاً تقاس بالملايين.
 
غسان شربل - الشرق الأوسط - 27 كانون الأول 2021

إرسال تعليق

 
Top