0
بتراكم غاضب كبير زاد أثقال المعاناة أضعافاً مضاعفة وأضعف مناعة القدرات المتآكلة للناس الى اقصى الحدود امام الانهيارات والضربات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتعاقبة، استعاد اللبنانيون امس النسخة الأقرب والأكثر تطابقا من بدايات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 من خلال "اثنين الغضب" الذي عكس عودة كثيفة واسعة للتعبير الاحتجاجي العابر للمناطق والطوائف والطبقات على اختلافها. 
يوم الغضب الجديد الذي اختير موعده في اول أيام الأسبوع بدا واقعياً اكبر مشهد احتجاجي منذ تراجع الانتفاضة الام وانحسارها لاسباب مختلفة من ابرزها التفشي الوبائي لفيروس كورونا، فاستعادت الحركة الاحتجاجية ألقها القوي وزخمها طوال ساعات اليوم من صباحه المبكر الى ساعات الليل المتقدمة على امتداد المحافظات والأقضية والمدن والطرق الرئيسية وأوصال البلاد من شمالها الى جنوبها مرورا بالعاصمة والجبل والبقاع.
وبدت الرسالة مدوية لا تحتاج الى تفسيرات وقراءات واجتهادات الا لمن يعيشون في عالم الانكار المذهل ولا دأب لديهم سوى رمي تبعات ما جنت اياديهم من كوارث على اللبنانيين، على اللبنانيين انفسهم على غرار ما ابتدعه الاجتماع الرئاسي- الوزاري- الأمني في قصر بعبدا امس الذي لم يجد اللبنانيون بعد تفسيراً واضحاً لما صدر عنه من مواقف وقرارات ما دامت تندرج في اطار لزوم ما لا يلزم او غسل الايدي من تبعات الانهيار الذي أعاد الناس الى الشارع. 
اذ ان السلطة السياسية الحاكمة عادت الى اللغة الخشبية في التعامل مع يوم الغضب الشعبي وكل يوم غاضب مماثل وجاءت "مبادرتها" الى عقد اجتماع بمثابة تكرار وترداد لما سبق ان اتخذ من إجراءات معظمها لم يقدم ولم يؤخر شيئا في اندفاعات الانهيار، فيما المطلوب واحد وهو وقف التعنت ورفع القبضة الآسرة عن تشكيل حكومة انقاذية. 
ولكن التطور البارز الذي شكل افضل رد حاسم، ولو في شكل ضمني، على السلطة السياسية كان في الكلام الكبير الذي اطلقه قائد الجيش العماد جوزف عون للمرة الأولى بهذه النبرة في وجه "من يريد التدخل في شؤون المؤسسة" وفي وجه السياسيين وفي مواجهة الحملات الإعلامية والسياسية "التي تهدف إلى جعل الجيش مطواعاً وهذا لن يحدث أبداً" وإعلانه بالفم الملآن صراحة ان العسكريين يعانون ويجوعون مثل الشعب فإلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا؟". 
وعكس هذا التناقض الصارخ بين موقف السلطة السياسية الحاكمة والقيادة العسكرية التي بدت اقرب ما تكون الى صف اللبنانيين المعترضين والمحتجين صورة لعلها الأكثر إفصاحا منذ سنتين عن محاصرة الازمات المصيرية لدولة فشلت في مواجهة انهيارات البلاد وعاندت سلطتها السياسية في لعبة المصالح بمنع تشكيل حكومة انقاذية الى ان بدأت الان الارتدادات الخطيرة ترتد عليها بأوخم العواقب.
اذن اتسم "اثنين الغضب" الذي دعت اليه "مجموعات الثورة" بشمولية كبيرة اذ لفّت التحركات الغاضبة البلاد بكل مناطقها رفضا للاوضاع المعيشية والمالية والاقتصادية والسياسية التي يتخبط فيها الناس، فافترشت مجموعات المحتجين الطرق وقطعتها بالاطارات المشتعلة والسيارات وارتفعت الأصوات المدوية ضد الغلاء والفقر والفساد، مطالبة بتشكيل حكومة انقاذية سريعا.
اما الاجتماع الذي دعا اليه رئيس الجمهورية ميشال عون في حضور رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب وعدد من الوزراء والمسؤولين الأمنيين والقضائيين وحاكم مصرف لبنان فبدا بمثابة خطوة شكلية في مواجهة عودة الاحتجاجات الى الشارع ولم تلامس مقرراته جوهر الازمة ولا اختلفت عن الإجراءات العادية التي تتخذ منذ أيام ولم تبدل حرفا في مسار الازمة.
في هذا الاجتماع تجاهل عون تماما الأصوات والمطالبات الصاخبة المتصاعدة من كل الاتجاهات السياسية والمجتمعية والاقتصادية والقطاعية بضرورة فك أسر الحكومة الانقاذية كوسيلة أساسية تكاد تكون حصرية لمنع الانزلاق المتسارع نحو الانهيار الأكبر والأخطر. 
وتحدث عون "عن خطورة ما يجري لما له من انعكاسات على الأمن الاجتماعي وتهديد الأمن الوطني" مشددا على "عدم جواز استمرار هذا الفلتان الذي يضرّ بمعيشة الناس داعياً الأجهزة الأمنيّة والادارات المختصة الى القيام بواجباتها. كذلك طلب من الأجهزة الأمنيّة الكشف عن الخطط الموضوعة للاساءة للبلاد لاسيما بعدما توافرت معلومات عن وجود جهات ومنصات خارجية تعمل على ضرب النقد ومكانة الدولة المالية". وقال "انّه اذا كان من حق المواطنين التعبير عن آرائهم بالتظاهر الّا أنّ اقفال الطرق هو اعتداء على حق المواطنين بالتنقل والذهاب الى اعمالهم لا سيما بعد أسابيع من الاقفال وعلى الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة أن تقوم بواجباتها كاملة وتطبيق القوانين دون تردّد".
"المؤامرة"
وطغت نظرية المؤامرة على القراءات الرئاسية لتحليق سعر الدولار وارتفاع الاسعار وتحرك الشارع. من رئيس الجمهورية الى رئيس حكومة تصريف الاعمال، التقت الكلمتان على ان جهات خارجية وراء المنصات التي تتحكّم بسعر الدولار لضرب النقد ومكانة الدولة المالية، وانها منصات سياسية وليست مالية تتحكم بسعر صرف الدولار. والرئيس دياب تحدث عن ان هناك من يدفع البلد نحو الانفجار ويجب قطع الطرق على التلاعب بمصير البلد من المتآمرين.
في الاجتماع، عرضت تقارير امنية عما يجري على الارض، ووحدهما قائد الجيش العماد عون والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابرهيم التزما الصمت، حتى عندما طلب من الجيش والقوى الامنية منع اقفال الطرق.
وتركزت مداخلات الحاضرين على ان الاحتجاجات في الشارع شق منها مطلبي معيشي محق، وشق منها مسيّس ومنظم بدخول احزاب واطراف تعمل على الاستثمار السياسي فيه. وعلم انه طلب من حاكم مصرف لبنان التدخل للجم ارتفاع سعر الدولار، وهو اعتذر عن عدم القدرة على التدخل بسبب الشح والجفاف في السيولة. وكان اجماع من الرئيس دياب والوزراء والامنيين الذين تحدثوا عن ان لا حل جذرياً للازمة المتفاقمة الا بتشكيل حكومة جديدة.
قائد الجيش
وفي المقابل برز موقف العماد جوزف عون ممن "يشنّون حملات سياسية علينا لتشويه صورتنا" مؤكدا ان "هذا الأمر لن يتحقق وممنوع التدخل بشؤوننا أو بالترقيات أو التشكيلات". وسأل خلال اجتماع رأسه صباحا لكبار الضباط "البلد كله يعاني بسبب الوضع الاقتصادي وكما أنّ الشعب جاع كذلك العسكريّ يعاني ويجوع فما الذي ينتظره المسؤولون؟" وإذ اكد ان "ليس صحيحاً ما يحكى عن حالات فرار في الجيش بسبب الوضع الاقتصادي" سأل: "بدكم جيش يضل واقف على إجريه أو لأ ؟ فكل عام يتم تخفيض موازنة الجيش أكثر الأمر الذي يؤثر سلباً على معنويات العسكريين". واعلن "لا نقبل أن تمدّ اليد على حقوقنا فنحن دمنا فداء للوطن لكن حقوقنا واجب على الدولة تجاهنا".
واشنطن
وسط هذه الأجواء دعت الولايات المتحدة رعاياها لاعادة النظر بالسفر إلى لبنان، وذلك بسبب جائحة كورونا والجريمة والإرهاب والنزاع المسلح والاضطرابات المدنية والاختطاف وقدرة السفارة المحدودة في بيروت على تقديم الدعم للمواطنين الأميركيين. ودعت مواطنيها إلى عدم السفر إلى الحدود اللبنانية مع سوريا بسبب الإرهاب والنزاع المسلح، والحدود اللبنانية مع إسرائيل بسبب احتمال نشوب نزاع مسلح، ومستوطنات اللاجئين بسبب احتمال وقوع اشتباكات مسلحة.
وقالت إنه يجب على مواطني الولايات المتحدة الذين يختارون السفر إلى لبنان أن يدركوا أن المسؤولين القنصليين من سفارة الولايات المتحدة لا يمكنهم دائمًا السفر لمساعدتهم. وتعتبر وزارة الخارجية أن التهديد الذي يتعرض له موظفو الحكومة الأميركية في بيروت خطير بما يكفي لمطالبتهم بالعيش والعمل في ظل إجراءات أمنية مشددة. وأضافت واشنطن أنه تم تقييد الحركات بشكل أكبر بسبب احتياطات الصحة والسلامة المتعلقة بـكورونا.
وأشارت إلى أن الجماعات الإرهابية تواصل التخطيط لهجمات محتملة في لبنان، وقد يشن الإرهابيون هجمات دون سابق إنذار تستهدف المواقع السياحية ومراكز النقل والأسواق مراكز التسوق والمرافق الحكومية المحلية. ولفتت إلى أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع ضمان حماية المواطنين الأميركيين من اندلاع العنف المفاجئ، ويمكن أن تتصاعد الخلافات الأسرية أو الطائفية بسرعة ويمكن أن تؤدي إلى إطلاق نار أو أعمال عنف أخرى دون سابق إنذار. ودعت واشنطن رعاياها في لبنان إلى تجنب التظاهرات وتوخي الحذر إذا كانوا بالقرب من أي تجمعات أو احتجاجات كبيرة حيث تحول بعضها إلى أعمال عنف.
 
النهار - 9 اذار 2021

إرسال تعليق

 
Top