0
تمخّضت سياسة "هزّ العصا" التي انتهجها "حزب الله" إزاء المصارف، فولدت "أرنباً" جديداً من "أرانب" مافيا السلطة والمال على شكل "تعميم"، يحاكي في ظاهره تحرير سعر الصرف وتحرير أموال صغار المودعين، لكن ما خفي فيه كان أعظم.. فهو من جهة لا يفرج إلا عن "الملاليم" التي ستعمد المصارف إلى كنسها وشطبها من دفاتر حساباتها باعتبارها لا تُغني ولا تُسمن من جشع، ومن جهة ثانية "يشفط" الدولارات من التداول ويفرض لبننة الودائع بالعملة الصعبة على الصغار والكبار من المودعين، ناهيك عن كون التدبير الجديد سيؤدي حكماً إلى طباعة المزيد من العملة المحلية، وهو ما سيشعل تالياً فتيل انفجار التضخم، في ظل غياب الإصلاحات إلى مستويات لا يمكن التكهن بها. فانعدام الرؤية الاقتصادية وغياب التخطيط طويل الأمد والنقص الفادح في التمويل، ستفرض على المسؤولين عاجلاً أم آجلاً تصحيحاً للأجور يقابله المزيد من ارتفاع الأسعار… حتى نصبح في النهاية نموذجاً اقتصادياً مثل فنزويلا، حيث بات سعر قالب الجبنة يساوي 12 مليون بوليفار.
إذاََ، رسمياً وظاهرياً، تحرر سعر صرف الليرة المثبت عند 1507.5 منذ العام 1998. بحيث أصبح السعر الجديد، أو أقله قسم منه، يتحدد على قاعدة العرض والطلب في منصة الكترونية ستنشأ بناء على قرار المركزي رقم 13216. المنصة تضم كلاً من مصرف لبنان والمصارف ومؤسسات الصرافة. يتم من خلالها الاعلان بكل وضوح وشفافية عن اسعار التداول بالعملات الاجنبية سيما بالدولار الاميركي.
الإعلان عن المنصة سبقها قرار حمل الرقم 13215 يتضمن اجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات الصغيرة لدى المصارف. بعيداً من التفصيل، فان كل من لا يتعدى رصيده المصرفي حدود 5 ملايين ليرة سيحق له سحبها كاملة، بعد أن يتم تحويلها للدولار على سعر الصرف القديم لتعود وتحتسب بالسعر الجديد للدولار الذي تحدده المنصة، وكذلك سيكون بمقدور من يملك وديعة بحدود 3 آلاف دولار سحبها بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف المنصة.
لغاية الآن يبدو القرار عظيماً، فهو يخلص أكثر من مليون و700 ألف حساب من بين قضبان المصارف، ويسهم بحسب الخبير الاقتصادي جان طويلة "بتقليص الفرق بين السعر الرسمي وسعر السوق، ويخفف الطلب على الدولار". كما أن المنصة المنشأة التي يشترك فيها الصرافون والمصارف ستجعل من الأخيرة صيارفة بالسعر المتداول. وللحد من المضاربات "فرض القرار على المصارف الاعلان بشفافية عن السعر المتداول اليومي. وهو ما يريح سعر السوق ويخفض سعر الصرف بنسبة كبيرة وسيميز العمليات بالوضوح أكثر"، برأي المستشار المالي غسان شماس.
إلا أنه من جهة ثانية، للقرار "وجه مظلم" يتمثل في أنّ كل الحسابات التي تفوق الـ 5 ملايين ليرة أو 3 آلاف دولار، سيتحتم على أصحابها سحب أموالهم بالليرة اللبنانية حصراً وبسعر الصرف القديم أي 1507.5. هذا القرار الظالم الذي يصيب شريحة كبيرة من المودعين الصغار الذين يملكون أكثر بقليل من 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة، سيعاد بحسب طويلة تعديله قريباً "حيث أنّ نجاح هذه التجربة سيوسّع في المستقبل عمل المنصة ليصبح سعرها ملزماً على كل الحسابات، أو على شريحة ثانية من المودعين تبدأ من 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة حتى حدود رقم يجري تحديده لاحقاً".
ويتوقع استمرار ارتفاع الطلب على الدولار لدى الصيارفة نظراً للجوء الكثير من أصحاب الودائع المحررة إلى تحويل المبالغ المسحوبة بالليرة إلى دولار بسبب انعدام الثقة، كما ان وتيرة طلب التجار والمستوردين للدولار ستبقى كما هي. وعليه فان الطلب المرتفع على الدولار في ظل "تنشيفه" من بين أيدي المواطنين سيؤدي الى زيادة سعره في السوق الموازية، الذي سيفوق بنسبة كبيرة السعر الذي ستحدده المنصة. ويسأل رئيس تجمع رجال الأعمال فؤاد رحمة في هذا السياق: "إن كان لدينا ما يكفي من دولار لضخه من أجل بقاء السعر على المنصة مقبولاً، وإن كانت العملة الأجنبية متوفرة، فلماذا لدينا إذاً أزمة سيولة؟".
الحديث عن "المنصة" يجرّ إلى الكثير من التساؤلات عن قدرتها المستقبلية على المحافظة على احترام قواعد السوق لجهة العرض والطلب، وجذبها لثقة رجال الأعمال والمستثمرين الذين يحتل عنصر الاستقرار صدارة أولوية همومهم، سيما وأنّ التحديد اليومي لسعر الصرف على المنصة "سيظلم الكثير من المودعين"، بحسب رحمة. فـ"السعر المحدد بـ 2800 ليرة اليوم من الممكن أن يقفز غداً إلى 4 آلاف ليرة وبالتالي يكون المودع قد خسر 1200 ليرة بكل دولار سحبه".
وإذ يُعتبر عدم ترتّب ديون على المودعين شرطاً أساسياً لتحرير الودائع، وهو أمر شبه مستحيل للسواد الأعظم من شريحة صغار المودعين، تؤكد مصادر مصرف لبنان لـ"نداء الوطن" أنّ المدينين سيستمرون بتسديد قروضهم المقوّمة بالدولار على أساس سعر الصرف القديم أي 1507.5 لغاية اليوم، وهو ما سيجنب شريحة واسعة من اللبنانيين وتحديداً أولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية فقدان قيمتها الشرائية.
باختصار، القرارات البهلوانية التي تتخذ بين الحين والآخر إنما تصب حصراً في مصلحة البعض وتظلم الجميع. فيما العلة الحقيقية تبقى في غياب الإصلاحين السياسي والإداري، اللذين أديا أساساً إلى النقص في السيولة. ويبقى المدخل الوحيد لحل المعضلة الاقتصادية والنقدية في إصلاح الدولة، بناءً على خطة واضحة المعالم، وبرعاية وموافقة ومساعدة من صندوق النقد الدولي… وإلا فإنّ كل القرارات من شأنها مفاقمة الإنهيار وليس تقديم الحلول.

نداء الوطن - 4-4-2020

إرسال تعليق

 
Top