0
إستنبط مونتسكيو نظرية الفصل بين السلطات، التي تطورت بتأثير تحولات مجتمعية تاريخية عميقة، الى نظرية الفصل بين السلطات، وهي موضوع جدل بين فقهاء القانون الدستوري. وغدت المؤسسات الدستورية في حاجة الى ضمانة اضافية تساهم في ضبط أدائها، ولعل هذا ما قاد الى قيام القضاء الدستوري في ضوء التجارب التي مرّت بها الانظمة الدستورية.
وذهب الدستور اللبناني، وتحديداً في الفقرة «هـ» من مقدمته، الى اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات، وتوازنها وتعاونها.
وبغرض ضبط أداء السلطات والمؤسسات الدستورية، ولاسيما السلطة التشريعية، من اي تجاوز محتمل، نصّت المادة /19/ من الدستور اللبناني على إنشاء المجلس الدستوري لمراقبة دستورية القوانين، وبَت النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية.
فكان القانون رقم 250 / 1993 (قانون انشاء وتحديد نظام المجلس الدستوري) الذي عُدّل مراراً. كذلك القانون رقم 243 / ِ2000 (النظام الداخلي للمجلس الدستوري) علماً، أنّ قانون إنشاء المجلس الدستوري 250 / 93 (المادة الثانية منه) كذلك المادة الثانية من القانون 243 / 2000، نصّتا على انتخاب مجلس النواب لخمسة اعضاء من المجلس، وعلى تعيين الحكومة الخمسة الآخرين.
وبالتالي، تشكيل المجلس الدستوري الحالي لا تعتريه أية شائبة على الصعيد القانوني والشكلي.
ساعات قليلة، تفصلنا عن تاريخ الامتحان الاول للمجلس الدستوري الحالي، حيث يقتضي عليه البت والفصل في الطعنين المقدمين في قانون موازنة عام /2019/، إضافة الى الطعن بنيابة النائبة ديما جمالي.
علماً أنّ الطعن الاول في الموازنة يجب ان يبت بتاريخ أقصاه 13/9/2019، والطعن الثاني بتاريخ أقصاه 15/9/2019.
صحيح أنّ تشكيل المجلس الدستوري الحالي أتى وفقاً للاليّة والقوانين المرعية الاجراء، ولكن هناك الكثير من علامات الاستفهام عن استقلالية هذا المجلس وعدم تبعيّته لمَن عيّنه وسَمّاه؟
والامتحان الاول سيكون بعد ساعات قليلة، فإمّا ان يُكرم هذا المجلس ويثبت للكافة انه جدير بحماية الدستور، وامّا ان يخذلهم، وعندها تكون المصيبة.
وبالمناسبة، أعود بالذاكرة الى عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، وتحديداً مطلع التسعينات، حين عيّن روبير بادنتر رئيساً للمجلس الدستوري الفرنسي (رئيس الجمهورية يعيّن رئيس المجلس الدستوري في فرنسا). وبعد حلفه اليمين امام رئيس الدولة، توجّه اليه بالقول: «حضرة الرئيس اسمح لي ان اقوم بواجب نكران الجميل تجاهك «Le droit d’ingratitude».
وبالفعل، وفي اول انتخابات تشريعية حصلت في فرنسا بعد هذا التعيين، طعن في نيابة وزير الثقافة (المقرّب من ميتران جاك لانغ الذي كان مرشحاً للانتخابات النيابية، لعلة تجاوزه حد الانفاق الانتخابي، فقرر المجلس الدستوري الفرنسي (برئاسة بادنتر) إبطال نيابته، وليس ذلك فحسب، بل منعه من الترشح للدورة التي تلي (كون القانون الفرنسي يجيز ذلك)، وبالتالي أثبت هذا القاضي ترّفعه واستقلاليته ونكرانه جميل من عَيّنه وسمّاه.
ننظر اليوم وبكل ثقة الى مجلسنا الدستوري الحالي الذي يضم نخبة من رجال الدستور والقانون، ان يحذوا حذو بادنتر بأن لا يعتبروا أنفسهم مدينين لأي فريق عَيّنهم، وبأن يكونوا حراساً للدستور ونصوصه. فلا شك في استقامة المجلس الحالي وكفاءته ونظافة كفه، آملين ان يتمتع أعضاؤه بالجرأة المطلوبة واللازمة.
امام المجلس الدستوري الحالي اكثر من طعن في موازنة عام /2019/، تستند اساساً الى ثابتة ركيزتها ان قانون الموازنة يعتريه الكثير من «فرسان الموازنة»، والمقصود بذلك أنه يحتوي ويتضمن الكثير من المواد التي زجّت في غير محلها، من تشريع لمناقلات بين القضاء والادارة (وبالعكس)، الى إدخال تعديلات على قانون صندوق تعاضد القضاء، الى فرض ضرائب على المعاش التقاعدي للجيش والقوى الامنية، الى حسم من رواتبهم التقاعدية للطبابة، الى تعديل لقانون الدفاع الوطني... كذا ...
علماً انّ قانون الموازنة، وسنداً لأحكام المادة /83/ من الدستور، هو بيان لنفقات الدولة ومداخيلها عن سنة واحدة، ولا يجوز له أن يعدّل قوانين صادرة لها صفة الديمومة.
كذلك لا يجوز للموزانة ان تقتنص من مكتسبات إستَحصَل عليها المستفيد، عملاً بالمبدأ الدستوري «الأمان التشريعي» (Securete juridique)... كذا ...
علماً أنّ المجلس الدستوري السابق، برئاسة الدكتور عصام سليمان، كانت له الجرأة في اتخاذ القرار بإبطال موازنة عام /2018/ والموازنات الملحقة، إبطالاً جزئياً (القرار رقم 2/2018 تاريخ 14/5/2018) لـ7 مواد في الموازنة، بينها 5 مواد لعلّة وصفها بـ«فرسان الموازنة».
مع الاشارة الى أنّ عدداً من النواب، كذلك الوزراء، على يقين تام بأنّ موازنة عام /2019/ تتضمّن مواد ينطبق عليها وصف «فرسان الموازنة»، ولا سبيل لاخفاء هذه المواد، أو تجميلها، أو تشريعها، كون ذلك سيشكل مخالفة دستورية فاضحة، لا يمكن السكوت عنها أو تجاوزها.
كل ذلك يجعل المجلس الدستوري الحالي امام امتحان عسير، نراهن بكل صدق وأمانة أن يثبت للكافّة انه الحصن المنيع لكبح جموح السلطة وتجاوزاتها، والآتي قريب.
فكل الاحترام للمجلس الحالي، رئيساً واعضاء، مع الثقة انه لن يوارب في إحقاق الحق، فرئيس المجلس الحالي القاضي طنوس مشلب، كذلك الاعضاء يشهد لهم بالعفة ونظافة الكف، إضافة الى الكفاءة والجدارة. والرهان اليوم فقط على جرأتهم في الفصل بالطعون بعيداً عن رغبة مَن عيّنهم وسمّاهم. مُرددين ما قاله الشاعر احمد شوقي: «إنّ الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلا».. رهاننا اليوم على شجاعة المجلس الدستوري وجرأته في النطق بالاحكام والقرارات بالطعون المذكورة. فعند الامتحان يكرم المرء أو يُدان.

سعيد مالك - محام وخبير دستوري - الجمهورية - 10 ايلول 2019

إرسال تعليق

 
Top