0
قد تتباعد المسافات الجغرافية وتتباين الخطابيات السياسية، لكن علينا –كعرب – أن ندرك حقيقتين مركزيتين في العمل السياسي: الحقيقة الأولى، طبيعة شبكة المصالح وما يتصل بها من نيات واستراتيجيات، بجانب المناورات المستخدمة للتمويه عليها... حيث وحين تقضي الحاجة. والحقيقة الثانية، آلية اتخاذ القرار وما تستند إليه من مؤسسات وقنوات وتقاليد وولاءات سياسية وثقافية ودينية ومالية، وما إليها.
بمعزل عن إدراك هاتين الحقيقتين تتحوّل السياسة إلى «هواية خطرة»، بل عبثية قاتلة. فالمسألة تخرج عن إطار التمنيات والتفاؤل بالكلام المنمق... وتتجاوز ادعاء «الأخوة» و«الصداقة». وكمثال، أمامنا ثلاث حالات تستحق التحليل الموضوعي البعيد عن التمنيات والتفاؤل، هي حالات: ليبيا وسوريا واليمن.
في ليبيا، كثر الكلام خلال الأيام القليلة الماضية، بعد الهجوم الذي أعلن «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير خليفة حفتر عن شنّه للسيطرة على العاصمة طرابلس وإنهاء وجود الجماعات المسلّحة هناك، وردّ الفعل الدولي المتحفّظ على هذا الهجوم. ولعل هذا التحفّظ، الذي عبّر عنه مجلس الأمن الدولي، يشير إلى أنْ لا تصوّر واضحاً في العواصم الكبرى لمستقبل الحل في ليبيا، على الرغم من القلق الأوروبي المعلن من مسألتي الإرهاب واللجوء.
نعم. هناك قوى أوروبية ودولية تبدو غير مقتنعة بجدوى الحسم العسكري بين الأفرقاء الليبيين، كما أنها غير متفقة على «السيناريو» الإقليمي للحالة الليبية... أمام اصطفافات آيديولوجية ومصلحية باتت جليّة للجميع. إنها غير راغبة - على الأقل - في أي حسم عسكري يغلّب فريقاً إقليمياً في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على فريق آخر منافس، وهذا رغم تكرارها انتقاد «تفلّت» الجماعات المسلحة المتشدّدة وعلاقاتها المزعومة - المباشرة أو غير المباشرة - بالتنظيمات الموصوفة بـ«الإرهابية».
في سوريا أيضاً، رغم كثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين الناشطين على الأرض وفي كواليس القرار والتفاوض، فإن ما يبقى مكتوماً أكبر وأخطر وأدعى للقلق مما هو معلن. الصورة هنا مُرتبكة ومُربِكة... ولنبدأ بالدور الروسي الملتبِس في كل نشاطاته ومبادراته، وتفاهماته وعداواته. إذ ما زالت طبيعة علاقات «موسكو فلاديمير بوتين» مع إيران غامضة، ومع إسرائيل مُريبة، ومع واشنطن متناقضة، وكذلك مع الطموحات التركية هنا والكردية هناك.
المفترض أن مخطّط التوسّع الاستيطاني الإيراني في سوريا لم يعد سراً. وبعد عملية التهجير الممنهج والمتصاعد منذ 8 سنوات، التي أنتجت تغيّراً بيّناً في النسيج الديموغرافي السوري دفع ثمنه 13 مليون مهجّر جلّهم من المسلمين السنة، ثمة مؤشرات نشرتها مطبوعة «فورين بوليسي» الأميركية قبل أيام عن دخول هذا المخطط منعطفاً جديداً في الجنوب السوري.
هنا، بالتوازي مع إعلان واشنطن «إسرائيلية الجولان»، تفيد «فورين بوليسي» بأن نظام بشار الأسد، بدعم إيراني وروسي، جمع نحو 1500 من مقاتلي تنظيم «داعش» المطرودين من الباغوز، بجنوب محافظة دير الزور (أقصى جنوب شرقي سوريا)، ونشرهم في البادية على أطراف محافظة السويداء.
ما يستحق الذكر هنا، أنه إبان المواجهة بين نظام الأسد وتجمّع «رجال الكرامة» - الرافض مشاركة شباب الموحّدين الدروز في القتال ضد إخوتهم السوريين خارج حدود محافظتهم - نقل النظام «دواعش» المنطقة الحدودية في محافظة درعا إلى تخوم السويداء، حيث نشرهم وتواطأ في ارتكابهم مجازر ضد المدنيين في السويداء. ويومذاك، كما اليوم، كانت النية ابتزاز الدروز في أمنهم، وإجبارهم على طلب حمايته واستسلامهم لشروطه... وإلا فالبديل المجازر والتهجير.
مخطّط إيران الديموغرافي يتقاطع مع غاية النظام، لا سيما في وجود تقارير عن عمليات تجنيس وتوطين وتشييع ووضع يد على الأراضي. وبالتالي، في ضوء التحضيرات لإعادة رسم خريطة سوريا، شمالاً مع أنقرة ووسطاً مع طهران، ومع الأكراد في الشمال الشرقي، يرجَّح أن يكون الشق الخاص بمصير الجنوب السوري قد قارب التنفيذ. أما السؤال المتبقي فهو: أين سيتوقف طموح إيران، وأي حد سيبلغ ثمن استرضاء إسرائيل في المنطقة؟ بصرف النظر عن الجواب، فإن المؤامرة ستمسّ بطريقة أو بأخرى مصير الموحّدين الدروز في السويداء شرقاً... ومنحدرات جبل الشيخ المتصلة بالأراضي المحتلة من الجولان غرباً.
ونصل إلى اليمن.
قبل أيام صوّت الكونغرس لصالح وقف واشنطن الدعم العسكري لقوات التحالف في اليمن، وهذه خطوة مستغرَبة وإن لم تكن مفاجئة. فهي مستغربة لأن المفترض بالمشرّعين الأميركيين - من الحزبين الجمهوري والديمقراطي - أن يعرفوا ما فيه الكفاية عن خلفيات الأزمة الحالية في اليمن، ويفهموا مختلف أبعادها السياسية والعسكرية والطائفية والإثنية. إنهم، بفضل ما تتوافر لهم من تقارير ومعطيات وأرقام، ناهيك ببيانات صادرة عن قيادات الحرس الثوري الإيراني نفسه، يعلمون أن السماح ببقاء الحالة الحوثية الشاذة يعني ترك «مسمار جحا» إيراني في جنوب شبه الجزيرة العربية عند مضيق باب المندب. أما كون خطوة الكونغرس الأميركي غير مفاجئة، فهي لأنها غير معزولة عن المواقف «الرمادية» المتذبذبة للأمم المتحدة وقواها الكبرى. ومنطق الأمور يقول: إنه لو كانت هناك مواقف جدّية في العواصم الكبرى... لكانت انعكست في التحركات والمبادرات الأممية، لكن - للأسف - ليس هذا ما تعكسه ممارسات الوسيط مارتن غريفيث على الأرض.
خلاصة القول، إن المنطقة العربية ككل تمرّ بظروف استثنائية معقدة، وستشكّل للعالم خلال عقدين، على أكثر تقدير، تحديات كبرى. إذ تواجه المنطقة أزمات صعبة كالانفجار السكاني والتصحّر والتلوث البيئي والتراجع الاقتصادي والتعليمي، وكلها تغذّي نزعات الإحباط واليأس والتطرّف. ثم، بجانب الأزمات الداخلية هذه، تتناهش منطقتنا المأزومة أطماعٌ إقليمية ودولية، تتناقض أحياناً وتتقاطع أحياناً أخرى. ومع هذا، لا يبدو أن أسلوب التعامل الدولي بلغ المستوى المطلوب من الجديّة والشعور بالمسؤولية.
كثيرون من جيل الشباب في العالم العربي ما عادوا يثقون بالمجتمع الدولي أو الشرعية الدولية وهذا أمرٌ مؤسف، لكنه أمرٌ مفهوم في ظل السياسات الدولية اللامفهومة واللامسؤولة تجاههم.
وإذا ما استمر الوضع على هذا الحال، ستسقط الحدود، وستنهار مع سقوطها الدول، ولن يعود في الإمكان إعادة مارد الفوضى إلى القمقم!

إياد أبو شقرا - الشرق الاوسط - 7 نيسان 2019

إرسال تعليق

 
Top