0
وصل الجنرال إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية بعد تعطيل طويل. جاء رافعا شعارات رنانة تفوق حجمه السياسي وتتجاوز الدستور اللبناني العتيد.
منذ عودة الجنرال من منفاه بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري راهن على السلاح الإيراني في لبنان. منح السلاح حليفه كل ما يشاء، الوجود والسلطة والتعطيل والصراخ العالي، أعطاه بلا حساب ما دامت المطالب والطموحات في خدمة المشروع الإيراني الاستراتيجي وتحت سقفه، وإلا فعصا ٦ شباط و٧ أيار في ذاكرة الجميع، لم ينس أحد تداعيات التمرين المصغر الذي أقامه حلفاء الجنرال ضد المناطق المسيحية بعد تصريح صهره ووزيره جبران باسيل عن الرئيس نبيه بري أوائل العام المنصرم.
وقع الجنرال في خطيئة الأحلام، ظن أن سلاح إيران سلاحه، وظن أن حزب الله حزبه، وبالغ في تقدير وظيفته السياسية للدولة المارقة وللميليشيا الإلهية، فقد ظن بتغطيته لحرب تموز أنه أصبح صاحب الأرض، لكنهم حقيقة لم يمنحوه غير حق العبور.
وصل الجنرال إلى قصر بعبدا أخيرا، وبدأت الحقائق تتكشف أمامه، حليفه يعمل ضده في وضح النهار، يعطل تشكيل حكومته لأسباب واهية، ويضعف قمته الاقتصادية العربية لأسباب أو هي ربما تساءل الجنرال: إذا كان هكذا الحلفاء فكيف هم الخصوم؟
في الأصل، لم يدرك الجنرال أن هناك فرقاً بينه وبين حزب الله، فالجنرال لبناني والحزب إيراني، ولا يستوي زائر طهران مع ابنها وأهلها، لم يدرك الجنرال المسيحي أن حليفه إسلاموي شيعي، لا يعبأ المهدي المنتظر أو نائبه الولي الفقيه أبدا بحقوق المسيحيين ورئاستهم القوية، فالمهدي قادم من أجل شيعته وحدهم، والولي الفقيه خادم أمين لمريديه، وسيد القوم خادمهم لا خادم غيرهم.

بدأ الجنرال في دفع أثمان ماضيه القريب، بالقرب من قصره يسكن جنرال آخر، سلفه الرئيس ميشال سليمان الذي يكتفي هذه الأيام بالمراقبة وبالابتسام. تصرف سليمان في ولايته بمنطق "الأمر للدستور"، لم يتآمر على أحد ولم ينحز لغير الدولة، لكنه وجد من الحزب الإلهي ومن الجنرال البرتقالي كل تعنت وتعسف وتجريح، غادر سليمان مقر الرئاسة ولم يفقد أبهتها، حظه أفضل من رؤساء كثر فقدوا هيبتهم داخل القصور.
كل ما فعله الجنرال ضد سليمان انقلب عليه، أراد إضعافه واستضعافه، وهذا ما يفعله الحلفاء اليوم معه، أراد إلغاء حصة الرئاسة الحكومية، وهذا ما يريده اليوم الحلفاء والخصوم منه. إنها لمفارقة لافتة أن من يرفع شعار "الرئيس القوي" عمل يوما على استتباع رئيس، ولا ينتظر - في المقابل - جزاء شركاء الأمس من جنس العمل، ربما يردد سليمان هذه الأيام بيت المعري "فأحسن إلى من شئت في الأرض أو أسئ / فإنك تجزي حذوَك النعل بالنعلٍ".
على بعد نحو ٣٠٠٠ كيلومتر من بيروت، يقبع جثمان جنرال ثالث في مثواه الصنعاني، علي عبدالله صالح، ظن الثعلب اليمني أنه حكم إيران وسلاحها الحوثي، لكنه بعد فوات الأوان اكتشف أنه المحكوم لا الحاكم، أعادت إيران إلى صالح مكتب الزعامة والصدارة، لكنه حين فتح أدراج الحكم لم يجد أختام الرئاسة، إنها بحوزة عبدالملك الحوثي وبتصرفه، يقف قاسم سليماني أمام قبر صالح المجهول ويقول لليمنيين هذا جزاء من ينقلب علينا متجاهلا حجمه ومتجاوزا دوره، بينما يصرخ صالح من تحت الأرض ببيت المتنبي: "ومن يجعل الضرغام بازا لصيده / تَصَيَّدَه الضرغام فيما تَصَيَّدا"، لكن صوت صالح لا يتجاوز التراب.
على بعد مئات الكيلومترات من بيروت تقف بغداد عاصمة العباسيين واجمة مكفهرة، تلجأ هي الأخرى إلى الشعر، "إني لـيـزعجني ما صار في بلدي / أضحى العـراق ملاذا لـلـشـياطـيـنِ / تبكي الرصافة في حزن لصاحبها / والكرخ أرّقـه الـتـفـريـق في الـديـنِ"، أسقط الأميركيون صدام حسين وتسلمت إيران الحكم، أصبح العراق مثالا نموذجيا وفادحا للمشروع الإيراني مآلا ومصيرا، والطريف أن الدول التي يصنفها بعض العراقيين في خانة الأعداء دعمت إعادة إعمار العراق، والدولة التي يظنونها الأم الرحوم (إيران) لم تتبرع بقرش من أي عملة، العراق الإيراني هو نموذج المعادلات المقلوبة، في العالم السوي يطارد الأخيار الأشرار لتوقيفهم والقصاص منهم، بينما في العراق يطارد الأشرار الأخيار لتهجيرهم أو قتلهم، لا صوت يعلو فوق صوت الإرهاب، إرهاب الدولة وإرهاب الميليشيات وإرهاب الفساد المطلق، فلا دولة ولا قانون، والمواطنون العراقيون انتهوا إلى قبائل متقاتلة وطوائف متناحرة، وخيرات النفط ذهبت إلى إيران وأتباعها من اللصوص والقتلة، لم يبق لبغداد إلا الشعر مجددا، تتذكر بيت الجواهري دامعة نائحة: "تتابعت الخطوب على بلادي / فواحدة لواحدة تَجُرُّ".
قصر المهاجرين في دمشق على مرمى حجر من قصر بعبدا، لا يحكم بشار الأسد إلا بعض قصره، ما تبقى من سوريا محكوم من موسكو ومن طهران ومن أنقرة، للكل حق تقرير مصير الشام إلا أهل الشام، بشار الأسد نموذج آخر للتداعيات الإيرانية المريعة، تحول من رئيس دولة إلى حامل أختام لا يملكها، الانتصار المزعوم لبشار الأسد له طعم كل الهزائم والخسارات، تكلفة إعادة إعمار سوريا تناهز نصف التريليون دولار، يتسول نظام الأسد العودة إلى جامعة الدول العربية، ويتسول الدعوة إلى القمة العربية الاقتصادية في بيروت، يحتفل باستقبال الرئيسين السوداني والموريتاني، من يزعم أنه رأس محور الممانعة يقول الإسرائيليون سرا وعلنا بأنه ضرورة صهيونية، ومن يزعم بأنه قلب العروبة النابض أضحى واجهة للقوات الأجنبية التي تحتل بلاده، خلف حافظ الأسد وقف الخميني ثم خامنئي، بينما ارتضى بشار أن يقف خلف حسن نصرالله وتنظيم الحمدين وغيرهم في الشرق والغرب، مأساة بشار الأسد أنه لا يمثل مشكلة لأحد، استمراره أو رحيله سواء، لا يهم إن ربح العالم وقد خسر نفسه ودولته كما خسر أكثر شعبه قتلا وهجرة وتهجيرا، مشكلة بشار الأسد أنه لا يقرأ نزار قباني: "مزقي يا دمشق خارطة الذل / وقولي للدهر كن فيكونُ / علمينا فقه العروبة يا شام / فأنتِ البيان والتبيينُ / كتب الله أن تكوني دمشقا / بك يبدا وينتهي التكوينُ".
في هذا السياق المرير يتموضع في لبنان معسكران متناقضان، راية الأول "الأمر للدستور"، وراية الثاني "الأمر للولي الفقيه وللميليشيات"، فمن يرمم "الأجنحة المتكسرة" لتستعيد الدولة القدرة على التحليق والطيران، المفترض أن رئيس الجمهورية يستمد قوته من الدستور لا من السلاح الفظ والمتوحش، والمفترض أن قوة الرئيس تتجلى في لبنانيته لا في طائفته أو طائفيته أو عصبته وعشيرته الأقربين، والمفترض أن يلمس اللبنانيون قوة رئيسهم أمام الميليشيات المتورمة لا أمام الطوائف والأحزاب وأهل القلم النازف والدستور المخنوق، ليس مهما حقا أن يكون رئيس البلاد قويا كشخص، المهم أن تنهض "الجمهورية القوية" دستورا ومؤسسات، لا تتعايش الدولة مع الميليشيا، فقيام واحدة يساوي انتفاء الأخرى، والمنتظر والمأمول والمفترض أن ترفع القيادة الشرعية في البلاد قولا وفعلا شعار "لبنان أولا والعرب دائما" في وجه من يرفع قولا وفعلا شعار "إيران أولا ودائما"، فالعبر والعظات واضحة وصريحة في المشروع الإيراني وتحالفاته ومآلاته ومصائره، وكما قال القدماء: "مَن اصفرّ وجهه مِن النصيحة، اسودّ وجهه عند الفضيحة"، والله من وراء القصد.

أحمد عدنان - العربية 15 كانون الثاني 2019

إرسال تعليق

 
Top