0
لا تكاد تسأل سيدة في زغرتا عن سليمان فرنجية إلا وتقول إنها ربّته منذ كان طفلاً. الناجي من المجزرة سلك غصباً عنه طريقاً سياسياً يختلف عن دروب السياسيين الآخرين، يتداخل فيها السياسي بالعاطفي بالخدماتي. فخلافاً للسياسيين الآخرين، لم يحتج فرنجية أن يخوض حروباً جنباً إلى جنب المقاتلين حتى يوطد علاقته بجماعته، أو يقف إشبيناً لألف عريس وعراب لألف آخرين.
كان يكفيه أن يكون سليمان طوني سليمان فرنجية. فحين يُسأل زغرتاوي عن أسس زعامة سليمان فرنجية يبدأ الحديث عن سليمان الجد في دليل واضح على عدم إغلاق الزغرتاويين لصفحته بعد. وحين يعلمون أن الحفيد هو المقصود يتلطون خلف «الصدق والنزاهة» قبل الوصول إلى أفضاله الخدماتية المختلفة عليهم. السياسي في تلك القرى مثل الطبيب النسائي، يقول أحد المخضرمين: تواصل النساء زيارته هو نفسه، أياً كانت ملاحظاتهن عليه، حتى لا يزرن كل مرة طبيباً جديداً. وزعامة الحفيد لم تظهر من عدم الحرب الأهلية؛ فهي نتاج علاقات عائلية وسياسية وخدماتية عمرها أكثر من 150 عاماً: حين ودع يوسف بك كرم مستشاريه اغناطيوس معوض وأغناطيوس فرنجية وذهب إلى منفاه، عادا من المرفأ ليجدا مراسيم تعيين الأول مدير ناحية زغرتا والثاني مدير ناحية إهدن.
اغناطيوس أنجب سليمان فرنجية الأول. سليمان أنجب قبلان. قبلان أنجب حميد فرنجية والرئيس سليمان فرنجية. سليمان أنجب طوني فرنجية. طوني أنجب سليمان الثالث. وسليمان أنجب طوني. وهكذا دواليك؛ تتغير قوى الاحتلال والانتداب والوصاية ولا يتغير مدير ناحية زغرتا، متكلاً على التفاف عائلته الكبيرة حوله أولاً وعائدات الأرزاق ثانياً. وتتراكم جيلاً تلو آخر ديون الناخبين. ومع انتخاب فرنجية الجد رئيساً فتحت منابع إضافية لتغذية الزعامة عبر غزو الإدارات والمرافق العامة بالمديرين العامين والمرافقين. فالبيك ليس فقط صاحب موقف سياسي و»ابن الشهيد» و(...) هو المدرسة الابتدائية والتكميلية والثانوية، وهو المهنية بمطالب تلامذتها الستمئة وعقود التعاقد مع أساتذتها والكافيتيريا والباصات، وهو المستشفى والمستشفى الآخر، والبلدية بموظفيها السبعين وكل خدماتها. 
كان رئيس الجمهورية ميشال سليمان يروي بعفوية مرة أنه لا يفهم سبباً لتوتر علاقته بفرنجية منذ أصرت نايلة معوض على تعيين أحد المحسوبين عليها مديراً لمدرسة في زغرتا كان فرنجية أرسل لسليمان اسم مديرها المنتظر، فأجابه محدثه بأنه مسّ بأحد أسس الزعامة الزغرتاوية، وهو موضوع لا يتساهل معه فرنجية أبداً. فبعيداً عن حزب المردة وأكاديمية المردة وغيرها من مظاهر التمدن المرديّ في السنوات القليلة الماضية، لا يزال حجر الزاوية الرئيسي هو مكتب الشباب الذي يضم ساعد فرنجية الأيمن في الوزارات المختلفة الوزير روني عريجي والوزير السابق يوسف سعادة ومدير مستشفى سيدة زغرتا الأب إسطفان فرنجية ومدير معرض رشيد كرامي أنطوان أبو رضا وأنطوان أبو الحن المكلف متابعة قضايا الوزارات، وتحيط بهؤلاء مجموعة رجال أعمال يتقدمهم قبلان يمين والمتعهد أنطوان مخلوف والشاغوري وأبشي وغيرهم. ويدير مكتب الشباب بإشراف سعادة شبكة واسعة من المفاتيح الانتخابية، ففي كل بيت شخص موصول بهذه الشبكة. 
علماً أن بيت فرنجية مفتوح على مدار العام لا في نهاية الأسبوع فقط كحال البيت الجنبلاطي. وهم «يعرفون العالم» وفق المفهوم السياسي ــ الخدماتي. والأهم من هذا كله أن خدمتهم للزغرتاوي لا تتأخر أبداً. ويختصر أحد المطلعين آليتهم بممارسة السياسة بمن حضر، فهم لا يطرقون الأبواب، لكن لا يكاد أحد يطرق بابهم حتى يعلق في ماكينتهم. علماً أن «الصيت في وزارة الداخلية مثلاً للنائب ميشال المر، فيما الفعل لفرنجية» يقول أحد عمداء الداخلية، وهو أمسك بالوزارة الخدماتية الأولى شعبياً (الصحة) خمس سنوات. والمقارنة بين سياسيي الوصاية السورية تبين أن الشريك المسيحيّ للرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري والنائب وليد جنبلاط كان المر في جبل لبنان وفرنجية في الشمال. وحصة المقربين من فرنجية من الكسارات والمرامل والإعلام وشركات الإسمنت والنفط والغاز والاعتداءات على الأملاك البحرية والكميونات وسوكلين والمطار واللوتو والمرافئ والكازينو وغيرها وغيرها كانت أكبر بكثير من حصة المر. وهو ــ على غرار بري وجنبلاط ــ لم يكتفِ بالتوظيف والخدمات الصغيرة والتنفيعات الكثيرة للمقربين منه، إنما أمّن لمنطقته عدة مشاريع كبيرة ذات طابع إنمائي. ومن يتنقل بين زغرتا وإهدن يجد أوتوسترادات وحيطان دعم وأعمدة الإنارة أفضل من تلك التي يجدها في الشوف والجنوب. والجدير ذكره دائماً أن الحكومات الحريرية المتعاقبة ومن يقف خلفها لم تتعامل مع فرنجية تعاملها مع سائر أبناء البيوتات السياسية المسيحيين، فقد أطلقت يد فرنجية شمالاً دون عوائق جدية وتجاوز تمثيله السياسي زغرتا باتجاه بشري والكورة والبترون وطرابلس وعكار. لكنه لم يستطع الحفاظ على نفوذه أو حماية حلفائه بعد 2005.
أما اليوم، فيعوِّل المرديون على حجر زاوية جديد يسهم في تدعيم زعامتهم ودفعها إلى الأمام، هو علاقتهم بتيار المستقبل. العلاقة بالرئيس السوري بشار الأسد وبحزب الله والتيار الوطني الحر حالت دون استفراد أيٍّ كان بفرنجية، إلا أن توسع الزعامة ووقوفها على قدميها مستحيل، بحسب مصدر مرديّ، من دون تحالف مع تيار المستقبل. فالتحالف مع حزب الله يؤمن مظلة سياسية، لكن لا يسمع صوته في صناديق الاقتراع، فيما يضمن التحالف مع المستقبل تمثيلاً نيابياً للمردة في عكار وطرابلس والكورة، كذلك يسهم بمحاصرة خصمهم البشراوي اللدود. والجدير ذكره ختاماً أن شرعية ترشيح فرنجية إلى رئاسة الجمهورية أكبر ــ شعبياً وأخلاقياً ــ من شعبية ترشيح كثيرين بمن فيهم الرئيس أمين الجميّل ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. إلا أن فرنجية نفسه لم يتعامل بالجدية المطلوبة مع ترشيحه حتى بقّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بحصة مبادرته. وهو دأب على الإيحاء أن مشروعه السياسي يقوم على وراثة العماد ميشال عون دون اتخاذ أية خطوة جدية بهذا الاتجاه، قبل أن يقلب الطاولة على هذا كله ويخاصم الجمهور العونيّ، معلناً أن مشروعه طمأنة الجمهور السنّي وانتخاب رئيس يطمئن جميع المكونات ولا يستفز أحداً، بعد أن أمضى حياته السياسية يستهزئ بمن أفنوا عمرهم توافقيين.

غسان سعود - الاخبار 20 نيسان 2016

إرسال تعليق

 
Top