0
خيَّمَ الحزن على قدّاس الجمعة العظيمة في جامعة الروح القدس - الكسليك، لأنّ رئاسة الجمهوريّة عُلّقت على خشبة الصليب والانتظار الطويل، وكأنّ الرمزية المسيحيّة في الشرق تدخلُ مرحلة النسيان. تتتقدّم الساعات، ويدور عدّاد الأيام دورته الكاملة، وبعدما كان الفراغ الرئاسي يُحسَب بالأيام، بات الآن يُعَدّ بالأشهر، والخوف أن يُحسَب بعد 25 أيار المقبل بالسنوات، لأنّه يكون قد مرَّ عامٌ على تركِ الكرسي المسيحي الأوّل في الشرق فارغاً.
لا يمكن إلقاء اللوم على الموارنة وتحميلهم وحدَهم مسؤولية الفراغ الرئاسي، لأنّ هذا المنصب لم يكن مارونياً يوماً، بل كان لجميع اللبنانيين. لكن في النفس المارونيّة، وفي نفس كلّ مسيحي شاركَ أمس في قدّاس رتبة دفن السيّد المسيح في جامعة الروح القدس - الكسليك، سؤالاً عمّا يفعله الموارنة بأنفسِهم، ولماذا كلّ هذه الأنانيّة؟ ألا ينظرون إلى وَضعيتِهم ويرون أنّ جميع مسيحيّي الشرق يراهنون عليهم، وهم يغرقون أكثر وأكثر في الجهل السياسي والاستئثار الخاسر؟
هذا الكلام القاسي ردَّده كلّ مؤمِن شاركَ أمس في «القدّاس - العرف» في الكسليك، وسط الغَصّة على غياب الرئيس في زمنٍ يُفترَض أن يكون زمنَ السِلم والتآخي وبناء المؤسسات، لكنّ الحرب السرطانيّة تنهَش الجسمَ الماروني واللبناني، ولا علاج ولا دواء.
للكسليك ألفُ قصّة وقصة مع رئاسة الجمهورية، فهي شَكّلت الملاذ الآمن لرئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية عندما قصَف الفلسطينيون والقوى اليسارية القصرَ الجمهوري، فحَضنَه الرهبان في الجامعة بدايةً، قبل أن يُسكِنوه في بلدية ذوق مكايل لتصبحَ المقرّ الرئاسي الموَقَّت، لأنّ جامعة الكسليك مقرّ دينيّ وتعليمي، ولا يجوز أن يقطنَها رئيس الجمهورية.
إحياءُ يوم الجمعة العظيمة في الكسليك، هو الأساس بالنسبة إلى الموارنة، وقد كرّسَه الرهبان عُرفاً منذ ما قبل العام 1975، إذ يحضره رئيس الجمهورية الغائب حاليّاً، ولتعويض الغياب، حضَر أركانُ الدولة من وزراء ونوّاب وأمنيّين وشخصيات. يتقدّمهم صاحب المركز الإداري الأوّل للمسيحيين في الشرق، أي قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي ترك وجوده أثراً طيباً واطمئناناً في نفوس الحاضرين.
غصَّت قاعة البابا القدّيس مار يوحنا بولس الثاني بالمؤمنين، وظهرَت علامات الحسرة على غياب الرئيس، ما خَفّف الإجراءات الأمنية. بدأ القدّاس على وقع تراتيل الآلام وقراءة الأناجيل التي تناوَبت عليها شخصيات.
جلس قرب المذبح جيل الرهبان القديم، يتقدّمهم السفير البابوي المونسنيور غابريال كاتشيا، والرئيس السابق للرهبنة اللبنانية المارونية الأباتي بولس نعمان الذي لعبَ دوراً تاريخياً في حماية الوجود المسيحي أيام الحرب، وكان أحد أبرز قادة المقاومة اللبنانية و
«الجبهة اللبنانية».
على وقع الصلوات، يَخرج الرهبان حاملين نعشَ المسيح، يتقدّمهم الصليب، ويطوفون بين الناس، يَصعدون من المذبح إلى قلب القاعة الشبيهة بمدرّج، وتنشِد جوقة جامعة الروح القدس ترنيمة «يا شعبي وصاحبي»، يدورون مرّتين في القاعة.
وبعد تلاوة الأناجيل الأربعة، يَصعَد الرئيس العام للرهبنة اللبنانية المارونية الأباتي طنّوس نعمة الذي ترَأسَ القدّاس، ليتلوَ عِظته التي استمَدَّها من آلام المسيح ودربِ الجلجة، وليؤكّد أنّ «الله يَرعى التاريخ، فالأحداث التي نعيشها اليوم لا تختلف عن الأحداث أيام صَلبِ المسيح، والاضطهاد الذي عاناه المسيح يعيشه المسيحيّون هذه الأيام في الشرق الأوسط».
القضيةُ التي تحرقُ قلبَ الرهبنة واللبنانيين هي تهجيرُ الأقلّيات المسيحية، حيث يشدّد نعمة على أنّ «صلاتنا اليوم هي ألّا نخاف من صَخبِ الحروب وأحداث الحياة، بل أن نَعيَ أنّ الله يرعى التاريخ، وعلينا ألّا نكون من الظالمين، بل أن نكون من دعاة الخير والصلاح والمحبّة فنزرعَها أينما حَللنا، لأنّ الله هو المنتصر وهو سيّد التاريخ، ولا يقوى أيّ إنسان أو أيّ حدَث عليه»، مؤكّداً أنّ «منطقَ الإيمان هو الذي يقوّينا ويجعلنا واقعيّين في مسيرتنا الحياتية».
الرئاسة لا تغيبُ عن بال الرهبنة، حيث يدعو نعمة إلى أن «يعطيَ الله لبنانَنا ومنطقتنا مجداً كبيراً، يكون علامةَ رضاه علينا، وأن تستعجلَ الفئات السياسية كافّةً اختيار رئيس للجمهورية، يناسب هذا المقام، ونحن بأمَسّ الحاجة إليه». ولا ينسى نعمة أن يشكرَ البابا فرنسيس «الحريص على مسيحيّي الشرق ولبنان، مستلهِماً من رسالة الميلاد التي وجَّهَها في كانون الأوّل الماضي اليهم».
نجحَت الرهبنة المارونية، ككُلّ سنة، في جذبِ أركان الدولة إلى الكسليك، ومعهم كلّ مارونيّ طامح إلى الجلوس على الكرسي الفارغ. مع العِلم أنّ هذه الكرسي ليسَت للوَجاهة أو سبباً لتقاتل الأخوة، إنّما للدفاع عن لبنان الكيان، وعن كلّ مسيحي يُضطهَد من المحيط إلى الخليج.
وفي انتظار أن تُقرَع أجراس الكسليك وبكركي وحريصا وكلّ مناطق لبنان فرَحاً بانتخاب الرئيس، يَبقى الخوف من أن يأتي قدّاس الجمعة الحزينة السنة المقبلة وكرسي الرئاسة فارغة في بعبدا... والكسليك.

ألان سركيس - الجمهورية 4\4\2015

إرسال تعليق

 
Top