0
هو متهم بتجارة المخدّرات بين لبنان ومصر. أخلت الهيئة الاتهامية في جبل لبنان أخيراً سبيله. كان اعترف بما نُسِب إليه، وتضافرت إفادات الآخرين على ذلك أيضاً، في تجارة يُتَّهم فيها مع آخرين بـ«اللعب» بملايين الدولارات. كيف يُخلى سبيله؟ هناك من حاول الدفاع عن قرار القاضي، فتحدّث عن دواعٍ صحيّة للمتهم، فيما رأى آخرون وجود خدعة ما.
قبل ستة أشهر، أوقفت قوى الأمن الداخلي سبعة أشخاص يُشتبه في كونهم ينشطون في تهريب المخدّرات (حبوب «الكبتاغون» وحشيشة الكيف) بين لبنان ومصر. جاء ذلك بعد سلسلة عمليات دهم نفّذها فرع المعلومات في مناطق الحمودية ودورس (البقاع)، صيدا، برج حمود وعين المريسة. آنذاك، وبحسب البيان الأمني الصادر، فإنّ الموقوفين اعترفوا خلال التحقيق معهم أنّهم «ومنذ عام 2013، نفّذوا 15 عملية تهريب من لبنان إلى مصر بواسطة الشحن البحري، عن طريق توضيب حشيشة الكيف وحبوب الكبتاغون داخل جلود المواشي»... وأنّ زِنة الشحنة الواحدة كانت تتراوح ما بين ثلاثة إلى عشرة أطنان. كذلك ذَكَر البيان أنّ آخر عملياتهم نفّذوها في شهر حزيران عام 2018، أي قبل أيام من توقيفهم، مشيراً إلى اعترافهم بأنهم كانوا بصدد «التحضير لشحن سبعة أطنان من الحشيشة وثلاثين صندوقاً من حبوب الكبتاغون، في الأيام المقبلة، وبالطريقة ذاتها، ولكن جاءت عملية توقيفهم لتمنعهم من التنفيذ». ختم البيان أنّه «تمّ التنسيق مع السلطات المصرية المختصّة بشأن ضبط آخر شحنة مخدرات مهرّبة».
مهدي م، مُتّهم بكونه أحد العقول المدبّرة لعمليّات التهريب تلك. هو أحد الذين أوقفهم فرع المعلومات في 27 حزيران الماضي ضمن المجموعة المذكورة. بحسب الاتهام القضائي، كان ينشط في تهريب حشيشة الكيف إلى مصر، حيث يُباع طن الحشيشة بمليون و200 ألف دولار، إضافة إلى أنشطة «تهريبيّة» أخرى. إلى هنا كانت تجري الأمور، أمنيّاً وقضائيّاً، وفق المألوف في هذه القضايا. فجأة، يُقرّر رئيس الهيئة الاتهامية في جبل لبنان، القاضي منذر ذبيان، وبشكل غير متوقّع، إخلاء سبيل مهدي. وللعلم، فإنّ أمد توقيف المشتبه فيهم في قضايا تجارة المخدرات، بحسب القانون، يكون مفتوحاً، وبالتالي يُعدّ إخلاء سبيل متّهم بهذه التجارة، صادر بحقه قرار ظنّي، بمثابة إجراء غير مألوف قضائيّاً. قرار يَطرح أكثر من علامة استفهام.
اللافت أنّ المُخلى سبيله كان اعترف تفصيلياً بدوره في أربع عمليات تهريب إلى مصر. كذلك يرد اسمه في إفادات عدد من الموقوفين، في المجموعة نفسها، على أنّه شخص أساسي في عمليات التهريب الحاصلة. شهد الملف شوائب أخرى أيضاً، ما أوحى بأنّ هناك من يحاول لفلفته، مثل أن أحد محاضر التحقيقات الأمنية المرتبطة بالملف، والذي أُحيل إلى القضاء، لم يعد موجوداً، أي «ضاع» بطريقة ما.
اعترافات مهدي كانت جلية، وتقاطعت مع إفادات بقية الموقوفين، فضلاً عن أنّه من أصحاب الأسبقيات في تجارة المخدرات دولياً. هو ذكر أمام محققي فرع المعلومات، ولاحقاً أمام قاضي التحقيق، أنّه كان يُهرّب «الكوكايين» من فنزويلا إلى سوريا ولبنان، قبل توقيفه من قبل السلطات السورية من عام 2007 إلى عام 2009 (خرج بعفو عام). آنذاك، في سوريا، ضُبط بحوزته 36 كلغ من «الكوكايين». كان المُخلى سبيله، بحسب المعلومات، عمل عام 2016 مع حسن ج. وعباس ز. في تجارة المخدرات وتهريبها إلى مصر لمرة واحدة، حيث جهّز 22 صندوق «كبتاغون» مقابل 40 ألف دولار للصندوق الواحد، على أن يؤمّن طريق تصريفها في مصر. ذكر في اعترافاته أن حصته من تلك العملية وحدها كانت 200 ألف دولار. أفاد مهدي أنه عمل لاحقاً مع خالد د. وذكر أن ابن عم الأخير طلال د. كان واسطة المعرفة بينهما، حيث اتفقا على آلية العمل، وكذلك على أن تكون الحصّة 500 ألف دولار مقابل الطن الواحد. تحدث عن شراكة كانت تجمعه بشقيقه ماضي، وكذلك شراكته مع جمال ش. استفاض مهدي أكثر، حيث شرح كيفية توضيب المخدرات، قائلاً إنها كانت توضع في أكياس نايلون بأشكال هندسية مختلفة، وذلك لكي يسهل توضيبها في الجلود. تحدّث عن الثقة التي جمعته بخالد، والتي تعززت بعد نجاح التهريبة الأولى من دون ضبطها. أفاد عن أربع عمليات تهريب ناجحة، وقدم شرحاً وافياً عن ظروف التحضير لها وتنسيقها مع الأشخاص المشاركين. بدأ منذ العام 2017 يستخدم أرقاماً أمنية للتواصل مع كلّ من علي ف. ا. وحسن ج. وخالد. كان يعمد إلى تغييرها كل أسبوعين. أين كان يذهب بتلك المبالغ التي جناها؟ يقول إنّه صرف جزءاً منها، فيما استثمر بعضها في تشييد مبنى في بلدة دورس للاستفادة منه عبر تأجيره.
لم تشذّ إفادة خالد د. عمّا سلف. كان يملك «ملحمة»، قبل أن يعرض عليه محمد ش. العمل في تهريب المخدرات والإتجار بها، فأغراه ما يمكن أن يجنيه من مال. جاءه العرض المذكور بمبلغ 100 ألف دولار مقابل التهريبة الواحدة. بدأ العمل، لكنه لم يلبث أن تلقى عرضاً أفضل. عُرِض عليه 500 ألف دولار من قبل تاجر آخر. أكّد خالد هذا أنّ علاقته بمهدي نسّقها طلال د. بغية الاتفاق على تهريب المخدرات إلى مصر. ذكر أنّ مهدي اتّفق معه على أن تكون حصته نصف مليون دولار لقاء كل طن مهرّب من الحشيشة، وأنه هو بدوره عرض على صديقه أنطون ع. العمل في مجال التهريب نفسه أيضاً فوافق.
خاض خالد بدوره في تفاصيل توضيب المخدرات والمستودعات التي كانت تُستخدم لهذه الغاية. ذكر أسماء المخلّصين الجمركيين الذين كان يستعين بهم، لكنّه أكّد أنّهم لم يكونوا على دراية بالمخدرات المخبّأة. وقال خالد إنه ساهم في «تخليص» أربع شحنات مخدرات لمهدي الذي تواصل معه قبل عشرة أيام من توقيفه بغية التحضير لنقل شحنة جديدة. إفادة خالد جاءت مفصّلة لجهة تحديده عناوين مستودعات في مصر كان ينقل المخدرات إليها، وذلك قبل أن يُسلّمها إلى تجار مصريين.
إزاء كلّ هذه الاعترافات، وغيرها، يعود السؤال عن «جواز» إخلاء سبيل مهدي مِن قبل القاضي. بحسب المعلومات، فإنّ القاضي، على ما يبدو، لا يُريد الأخذ بما سلف. مصادر قضائية تحدثت عن تشكيك القاضي في الملف، وذلك نتيجة «عدم وجود مضبوطات». في المقابل، هل يحق له، وهو ليس قاضي الحكم، أن يُخلي سبيل متهم اعترف بتهريب أطنان من المخدرات والاتجار بها، بل وتضافرت اعترافات الآخرين على ذكر دوره الرئيسي؟ إذا كان القاضي يُشكّك فعلاً في التحقيقات، فلماذا لم يخلِ سبيل جميع الموقوفين؟ لماذا لم يستدعِ أحداً من ضباط فرع المعلومات لسؤالهم عن كيفية انتزاع تلك الاعترافات؟
تردّ المصادر بأنّ القاضي ذبيان اتّخذ قرار إخلاء السبيل استناداً إلى تقارير أطباء شرعيين كشفوا على مهدي. يُقال إن تلك التقارير تفيد أنّه مصاب بداء الكبد، وبالتالي فإنّه يُعاني صحياً.
هذا ما تُظهره المعلومات المتداولة في أروقة العدلية. تُقابل ذلك وجهة نظر أُخرى، يقف أصحابها في صف القاضي صاحب إخلاء السبيل، ورأيهم يتلخص بـ«عدم قناعة رئيس الهيئة الاتهامية بالتحقيقات». يذهب هؤلاء إلى اعتبار أنّ «شعبة المعلومات لم تُكمل تحقيقاتها حتى النهاية، إذ هل يُعقل أنّه لا توجد مضبوطات؟ ماذا عن عدة التغليف التي كانت توضّب فيها حشيشة الكيف داخل جلود نتنة؟». في هذا السياق، تتحدث مصادر مطّلعة على مسار التحقيق عن إضاعة كتاب «إنتربول» مُرسل إلى النيابة العامة التمييزية. أما عن سبب إخلاء سبيل الموقوف، فتردّ المصادر المطّلعة بأنّ القاضي استند إلى تقارير أربعة أطباء شرعيين تفيد بأنّ حالة الموقوف الصحية حرجة، وأنّ النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون عيّنت لجنة طبية للكشف على الموقوف، فكانت النتيجة هي نفسها: إنه يُعاني.
مهلاً، مكث المُخلى سبيله، بحسب مصادر أمنية، قرابة ثلاثة أشهر لدى فرع المعلومات، ولم يذكر أبداً أنّه يأخذ دواءً لداء الكبد. بل أكثر من ذلك، علمت «الأخبار» أنّ والدة الموقوف قصدت مرّة مركز المديرية، زاعمة أنّ ابنها يعاني من داء الكبد، تاركة له الأدوية اللازمة. حذّره المعنيون أنّه إن لم يكن مصاباً بالمرض فعلاً، وأخذ الدواء، فإنه حالته الصحية ستصبح سيئة جدّاً. تبين أنّه لم يتناول الدواء. هل كان ذلك خدعة لتسهيل تمرير إخلاء سبيله؟ معلوم في لبنان واقع «تقارير» بعض الأطباء الشرعيين لناحية «الفساد». لا شيء يُجزم به هنا، والسوابق تدفع إلى مزيد من الشك، ولهذا تكثر الأسئلة. ماذا عن سبب عدم استدعاء أحد من المحققين الأمنيين للاستماع إلى إفادته؟ تردّ مصادر قضائية بأنّ «فرع المعلومات لا يتجاوب مع مطالب القضاة في هذا الخصوص». طيب، لماذا لم يقم القاضي بواجبه لهذه الناحية، ويطلب مثول المحققين أمامه، وبخاصة أن لديه سلطة إجبارهم على الاستجابة له؟
الملف كبير في حجمه وشائك في تشعباته. اسم مهدي، المُخلى سبيله، يرد أيضاً في إفادات موقوفين آخرين. الشقيقان ذو الفقار وحسين د. اعترفا بالعمل لحساب شقيقهما خالد في مجال تهريب المخدرات إلى مصر منذ عام 2014، وتحدّثا بالتفاصيل عن العمليات التي جرى تنفيذها لحساب مهدي. بدوره الموقوف أنطون ع. (الذي يمتلك شركة لتجارة المواشي)، اعترف بأنه كان يتقاضى 500 ألف دولار مقابل كل عملية تهريب. لفت في إفادته إلى أنّ عملية التهريب كانت تتم بمعاونة مخلّص جمركي لم يكن يعلم شيئاً عن موضوع المخدرات. في إفادته تحدث عن أنّه ذات مرة استلم المخدرات وتواصل مع تجار مصريين، من خلال رقم هاتفي زوّده به مهدي (تقاضى مقابل هذه العملية مليون ونصف مليون دولار من طلال ومهدي).
أما الموقوف طلال، وفي إفادته، فقد أقرّ بأنّه نسّق لقاءً بين مهدي وخالد بهدف العمل بين الطرفين في مجال التجارة بالمخدرات وتهريبها إلى مصر، مؤكداً أنّ دوره اقتصر على نقل الأموال من مهدي إلى خالد والتنسيق بينهما بشأن أوقات نقل المخدرات إلى المستودعات. كانت حصته تتراوح ما بين 100 ألف دولار و150 ألف دولار يتقاضاها من خالد، ثم يتقاضى من مهدي 30 ألف دولار. وأقرّ طلال أنّه سلّم أنطون مبلع 320 ألف دولار على أربع دفعات مُرسلة من مهدي.
إلى ذلك، يُشار إلى أن بعض الموقوفين تراجعوا عن إفاداتهم لاحقاً، أمام قاضي التحقيق بسام الحاج، فيما أكّدها آخرون. برز اسم خالد من بين المؤكّدين، بحيث كرر أقواله واعترافاته بشأن تهريب المخدرات والاتجار بها. كان لافتاً أنّ إفادة مهدي، كأحد الموقوفين الرئيسيين في الملف، لم تتعد الصفحتين لدى قاضي التحقيق، حيث سُجّل فيها تراجعه عن اعترافاته، مدلياً أنّها انتُزعت منه تحت الضرب. لوحظ أنّه استغرب اعترافات الآخرين ضده. يبرز اسم حسين د. من بين الذين غيروا إفاداتهم، ولكن لدى سؤاله عن سبب تأكيد شقيقه أنّه يعاونه في توضيب حشيشة الكيف داخل جلود المواشي، ردّ بأنّ شقيقه «يعاني أمراضاً نفسية». هكذا، الأسئلة كثيرة حول ما شهده هذا الملف من شوائب. أسئلة لا بد لها من أجوبة، قطعاً للشك بما لا يود أحد التشكيك فيه. الحديث هنا عن المخدرات التي يقول جميع المسؤولين في بلادنا إنّهم يحاربونها.
الإنتربول يؤكد
عمد مجهولون إلى إخفاء محضر تحقيق أجراه عناصر من مكتب مكافحة المخدرات المركزي مع أحد الموقوفين لدى فرع المعلومات، علماً أن هذا المحضر يتضمن دليلاً وإثباتاً على وجود بضعة أطنان من حشيشة الكيف مخبّأة في جلود البقر ضُبطت في مصر، ولا سيما أن فرع المعلومات لم يتمكن من ضبط الشحنة المهربة، لكون سفينة الشحن قد انطلقت قبل التوقيف. وقد تضمن المحضر اعترافاً من الموقوف خالد د. يفيد بأن مهدي م. المخلى سبيله يرأس شبكة تهريب نفّذت عدة عمليات تهريب حشيشة إلى مصر. وعلمت «الأخبار» أن الملف تضمن كتاباً صادراً عن الشرطة الجنائية الدولية والعربية (إنتربول القاهرة) يؤكد أنّه جرى «إجهاض مخطط لتشكيل عصابي يضم مصريين ولبنانيين قاموا بجلب شحنة كبيرة من مخدر الحشيش بلغت ثمانية أطنان وخمسمئة كلغ داخل ثلاث حاويات مشمولها جلود خام بميناء الداخلية البحري». وأشار الكتاب إلى أن «تشكيل المتهمين الهاربين مؤلف من اللبنانيين خالد د. زعيم التشكيل، وأنطوان ع. والمصري هاني ا. وقد أصدرت جهاتنا القضائية أمر ضبط وإحضار لهؤلاء الفارين الثلاثة في القضية»، علماً أن عملية ضبط الحشيشة المهربة جرت بناءً على المعلومات التي زوّدت بها قوى الأمن اللبنانية نظيرتها المصرية. وقد أصدرت مديرية مكافحة المخدرات المصرية بياناً إعلامياً كشف عن ضبط عملية التهريب.

رضوان مرتضى - الاخبار - الاربعاء 13 شباط 2019

إرسال تعليق

 
Top