0
ليس عبثيّاً فائض التوتّر الذي عبَّر عنه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، والذي انصبّ خصوصاً على رئيس الحكومة سعد الحريري. 
الأمر، كما يقول المطّلعون، لا يتعلق بمجريات تأليف الحكومة، خلال أشهر خَلَتْ، وتساهل الحريري أمام عون وفريقِه السياسي. فهذا أمر مضى عليه الزمن، ولم تَعُد إثارته مفيدة. السبب الأبرز هو أنّ الحكومة الجديدة ستنفتح رسمياً على دمشق. وفي اعتقاد جنبلاط، انّ هذا النهج يحظى بموافقة ضمنية من بعض قوى 14 آذار داخل الحكومة.
بعد أيام، ستفتح الحكومة الجديدة باباً أساسياً على دمشق، هو باب النازحين السوريين. وفي المعلومات أنّ الحكومة ستقوم، بعد إنجاز بيانها الوزاري، بإطلاق ورشة اتصال مباشر ومكثّف مع العاصمة السورية، عنوانها ملف النازحين.
وسيتم هذا الاتصال برعاية موسكو. وسيحرِّك الروس مبادرتهم التي كانوا قد جمَّدوها في وقت سابق لأسباب مختلفة، منها تَعثّر الحل السياسي في سوريا، ومنها وجود رغبات ومصالح عربية وإقليمية ودولية، لاستثمار ملف النزوح ومحاولة النأي عن مخاطره الأمنية والاجتماعية بتطبيع إقامة النازحين في دول الجوار السوري، ومنها لبنان.
اليوم، يبدو الملف على وشك عملية تحريك جديدة. ومن مؤشرات ذلك إعلان الوزير جبران باسيل في بروكسل أمس، أنّ 80% من سوريا قد بات آمناً وأنّ 90% من النازحين يرغبون في العودة، وأنّ النظام في سوريا برعاية المبادرة الروسية يتجاوب مع هذه العودة. وتالياً، ما على أوروبا إلا تحويل الأموال المخصَّصة اليوم لتحقيق إدماج النازحين في المجتمعات المضيفة إلى أموالٍ لدعم العودة.
وسعى باسيل إلى التحذير من أنّ أوروبا تدفع اليوم ثمن سياستها إزاء النازحين، في شكل خلافات بين دولها واضطرابات أمنية واجتماعية واقتصادية ونموّاً لليمين المتطرّف، وأن دعم عودة النازحين إلى بلدهم وفيه، يبقى أقل كلفة لأوروبا ولبلدان الجوار السوري، ومنها لبنان الصغير الذي ينوء تحت أثقال مليون ونصف مليون نازح.
إذاً، يريد لبنان الرسمي تبديل المقاربة الأوروبية والدولية لملف النازحين، من المكان الخطأ أي دعم إدماج النازحين في البلدان المضيفة إلى المكان المناسب أي دعمهم في بلدهم. وإذا تحقّق ذلك، ستتوافر تغطية أوروبية، مادية ومعنوية، لإنجاح ورشة الاتصالات المباشرة مع دمشق، التي ينوي لبنان الرسمي إطلاقها بعد إنجاز البيان الوزاري.
وبعد تكريس المبادرة الروسية في البيان الوزاري، ستنطلق الحكومة بخطواتها التنفيذية المقرَّرة. وتسليم ملف النازحين إلى وزير قريب من سوريا، هو صالح الغريب، مدروس لافتتاح خط التواصل على مصراعيه مع دمشق، ومن دون تحفظات. وسيؤمن وزير النازحين تغطية سياسية للمساعي العملانية التي يقودها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم في هذا الملف، ولن يقع أي تناقض بين دور الوزير ودور المدير.
ولا يتوقع المطلعون بروز اعتراضات ذات شأن داخل الحكومة على الانفتاح. ويقول هؤلاء إنّ الحريري «موضوعٌ في الصورة» منذ البداية، وهو لن يلجأ إلى التصعيد ردّاً على خطوات الاتصال مع دمشق. وثمة مَن يعتقد أن من العوامل التي ساهمت في عدم توزير الدكتور مصطفى علوش هو الحدّ من الإحراج، لدى وزراء تيار «المستقبل»، عند طرح الملفات المتعلقة بالانفتاح على دمشق.
وعلى الأرجح، ستلتزم «القوات اللبنانية» سياسة السير بين النقاط في هذا الملف. فهي تشارك «التيار الوطني الحرّ» سعيه إلى توفير أوسع عودة للنازحين إلى سوريا. كما أنها تعرف مقدار رغبة الرأي العام اللبناني، والمسيحي خصوصاً، في التخلّص من مأزق النزوح. لكنها لن تبصم على التطبيع مع نظام الرئيس بشار الأسد. وقد تُعبِّر عن اعتراضها في مجلس الوزراء، لكنها ستتجنّب خلق أزمات سياسية نتيجة ذلك. وعملياً، ستتنصَّل «القوات» من مشاريع الانفتاح على الأسد وتترك الأمور تسير، و»ليتحمَّل كل طرف مسؤوليته». إلّا أنّ جرس الإنذار الأقوى هو الذي قرعه جنبلاط. فهو يعرف أنّ الانفتاح أصبح أمراً واقعاً. ولكن، ما يزعجه هو أنّ الوزير المكلَّف الملف هو الدرزي الثالث الذي اختاره رئيس الجمهورية، والذي كان جنبلاط يريده «وسطيّاً» بينه وبين النائب طلال إرسلان.
ولذلك، شنّ جنبلاط هجومه الشرس، في اتجاه الحريري خصوصاً، لعلّ موقفه يخلق بعض الكوابح للاندفاع نحو التطبيع. لكنّ الحريري كان واضحاً في تمييز موقفه، فهو سارَع إلى وضْع كل البَيْض في سلّة موسكو، بحيث لا يزايد أحد عليه أو «يُمرِّك» باتهامه بالانفتاح على الأسد أو التطبيع معه. وفي أي حال، هو كان أوحى أمس بأنه سيمضي في التصرُّف وفقاً لاقتناعاته ولن يتأثّر بالمزايدات. المعنيون لا يخشون أن تقع أزمة سياسية داخل مجلس الوزراء على خلفية الانفتاح في ملف النازحين. وثمة مَن يتوقع أن تكون للوزير المعني هوامش واسعة في الاتصال بالمسؤولين السوريين والتفاوض معهم. وعلى الأرجح، هو سيفتح خطوطاً جديدة لوزراء آخرين.
لكن المبادرة الروسية، التي ستواكب الاتصالات اللبنانية - السورية وترعاها، تهدف أيضاً إلى تحريك الملف السياسي الداخلي في سوريا ومشاريع إعادة الإعمار هناك. وهذان الملفان يحتاجان إلى عملية إنضاج مضنية، تشارك فيها القوى الإقليمية والدولية.
ولذلك، يجدر السؤال: هل يمكن توقُّع إنجازات كبرى في ملف إعادة النازحين، حالياً؟ الأرجح أنّ هناك مجالاً لتحقيق خطوات جزئية في الملف، لكن الإنجازات الكبرى ترتبط بمجموعة عناصر معقّدة ومتشابكة في سوريا. فلا يمكن فكّ الترابط بين عودة النازحين والصيغة التي سترسو عليها التسوية السياسية هناك ومشاريع إعادة الإعمار ومواقف القوى الإقليمية والدولية المعنية ودور كلّ منها وحصّته.
ولذلك، ستكون هناك فرصة حقيقية لإراحة لبنان من أعباء ملف النازحين، إذا نجحت المبادرة الروسية بجوانبها الأخرى، والسورية تحديداً، وبالتوافق مع القوى الإقليمية والدولية المعنية. وسيكون تحريك الملف قريباً، في هذه الحال، ضربة موفّقة. أما إذا بقيت المبادرة الروسية متعثّرة بجوانبها المتعلقة بالداخل السوري، فإنّ ما يستطيع لبنان أن يطمح إليه هو إطلاق مسار العودة والتأسيس لمرحلة التسويات الجدّية والانتظار. ولكن، في الانتظار، قد تدخل عناصر أخرى على الخط. فالانفتاح على الأسد في ملف النازحين قد يستدرج «انفتاحات» أخرى كثيرة في عدد لا يمكن حصره من الملفات الاقتصادية والتنموية والسياسية والأمنية…
وفي هذه الحال، وفي ظل الانقسامات اللبنانية المعروفة، سيكون منطقياً التفكير في مستقبل العلاقة بين بيروت ودمشق، أين تبدأ وأين تنتهي. وفي الوقت الضائع، قد يقوم الأسد بالمساومة واستثمار ملف النازحين لكي يستعيد أوراقاً لبنانية مفقودة.

طوني عيسى - الجمهورية - الثلاثاء 5 شباط 2019

إرسال تعليق

 
Top