0
شدد الرئيس العماد ميشال سليمان على أهمية الحوار لإيجاد الحلول واستباق النزاعات، معتبراً ان الحوار هو الطريقة الأفضل لفهم الاخر وتبديد هواجس الشريك وتقديم الحلول المبنية على ثقافة تبادل الخبرات واحترام الرأي المختلف والبناء على المشتركات.
كلام الرئيس سليمان جاء خلال ندوة حوارية بدعوة من نادي "روتاري بيروت قدموس" بالاشتراك مع أندية روتاري ساحل المتن، بيروت هيلز الاشرفية، عاليه وست، متن غيت، زحلة البقاع، متروبوليتان، عاليه وصيدا، تحت عنوان "الحوار واستباق النزاعات وحلها".
واعتبر سليمان ان وضع آلية لتحييد لبنان ومناقشة الاستراتيجية الدفاعية وتشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية هي من أبرز مواضيح الحوار الوطني التي تشكل "خريطة طريق حل المشكلات العالقة" والمُلزمة في لبنان، سعياً إلى التكافل الوطني لمواجهة تحديات التطور العلمي ومواكبة الرقمنة الابداعية للانتقال بلبنان إلى مصاف الدول المنتجة على صعيد إقتصاد المعرفة.
كلمة الرئيس ميشال سليمان
بين حوار الحضارات وصدامها
عندما قدم صامويل هينتنجتون "Huntington" نظريته عن " صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي" في التسعينات رداً على أبرز تلامذته فرنسيس فوكوياما الذي توقع توسع الديموقراطية الليبرالية بعد الحرب الباردة، لم يكن أحدٌ منّا يتوقع أن الثورة الصناعية الثالثة (الرقمية) ستشهد تطوراً مذهلاً في هذا العقد نحو الرقمنة الابداعية.
هذه الرقمنة التي تقوم على مزيج من الاختراقات التقنية المتفاعلة والمتكافلة عن طريق خوارزميات مبتكرة أنتجت الروبوتات وأشكال متطورة من الذكاء الاصطناعي، الطباعة الثلاثية الابعاد، السيارات الذاتية القيادة، وتقنيات تعديل الجينات البشرية وشبكة تكنولوجيا الفضاء الخارجي.
وقد أطلق كلاوس شواب (Klaus Martin Schwab) - الرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي الدولي(World Economic Forum) على هذه الثورة اسم الثورة الصناعية الرابعة (Fourth Industrial Revolution) أو (4th IR) وتوقع أن تحدث تحسيناً لكفاءة الأعمال والمؤسسات بشكل جذري وتساعد في تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول، وكل هذا برأينا يتطلب حواراً شاملاً ومستداماً.
سيداتي سادتي،
ان هذا التطور الذي نراه في هذا النهار بالذات لم يتوقف طيلة عشرة أشهر، أي عندما توقفت العجلة الدستورية في لبنان عن العمل بعد الانتخابات النيابية واستقالة الحكومة، وهي حالياً تحاول أن تتلمس طريقها إلى الحكم في خضم التناقضات. في حين نجهل كيف ستكون بعد عشر سنوات الانظمة التي سترعى شؤننا السياسية، الاقتصادية، الصحية، الثقافية. كما المدن الذكية، التي ربما لن يستطيع البعض منا ممن بلغ العقد السابع (مثلي) أن يعيش ويتنقل ويؤمن حاجاته دون مساعدة آخرين له.
وبما يشبه فترة المخاض، نجد أن صدام حضارة الغرب بقيمه المسيحية والمكون من الولايات المتحدة واوروبا واليابان (بحدود خجولة) واميركا اللاتينية (مستقبلاً) مع حضارة العالم الاسلامي تجسد فصولاً خطيرة.
من هذه الفصول الارهاب المتمثل بالقاعدة واعنف تجلياته كانت في تدمير البرجين في نيويورك 2001 ومجاهرة أسامة بن لادن أن هذه الأعمال كانت ردة فعل على ظلم المسلمين في فلسطين من قبل "اليهود والنصارى".
وأيضاً من خلال "داعش" الذي رسم حدود "دولة الخلافة" على "قطع الرؤوس ودماء الكفار والمعارضين وأتباع المذاهب الاخرى"، وتدمير المعالم الحضارية في الدول العربية وحيثما امكنه ذلك. ولحسن الحظ تلاشت "مملكته" في يومنا هذا على امل تلاشي حضارته التكفيرية.
ولا بد من الإشارة إلى الارهاب الاسرائيلي والمجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وعمليات التطهير العرقي الذي يمارَس بحق عرب فلسطين وغيرهم. كذلك عمليات اضطهاد الروهينغا والاعتداء على المصريين الأقباط وعلى كنائسهم في مصر.
من جهة اخرى شهدت هذه الفترة حدثين مهمين سيكون لهما تأثيرٌ كبير على المناخ العالمي:
الحدث الاول: المؤتمرات التي تعقد في انحاء العالم وابرزها "قمة دافوس" و"القمة العالمية للحكومات" (شاركت بها) في دبي. وهي القمة الهادفة لاستشراف المستقبل وبحث السبل الآيلة للتشارك والحوار من أجل التنمية المستدامة وإصدار التقرير العالمي السنوي لسياسة السعادة و"جودة الحياة" لتلافي الأسباب الكامنة وراء العنف والتطرف.
الحدث الثاني: زيارة الحبر الأعظم البابا فرنسيس إلى دولة "الإمارات العربية المتحدة" التي تُوِجت بتوقيع "وثيقة الأخوّة الانسانية" مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب، والتي تدعو الى "نبذ العنف وحل النزاعات" والى "تلاقي حضارتي الشرق والغرب وتكاملهما"، كما تدعو الى "الحوار تحت سقف الايمان بالله والتسلح بمبادىء الاديان السماوية المؤسسة على الخير والتسامح لحماية المجتمع"، وبخاصة الشباب والاطفال في البيئة الرقمية الجافة التي تسود العصر. (دون ان ننسى اهمية زيارة البابا بنديكتوس الى لبنان 2012 والمعاني التي كانت تحملها في حينه اثناء اندلاع الربيع الدموي في المنطقة).
كما تعمل منظمات المجتمع الدولي والمنظمات الاقليمية على التنمية ومواكبة التطور العلمي والدبلوماسية الوقائية لتلافي العنف وأسبابه وحلّ النزاعات.
ان البيئة المشار اليها تحدّد الوظائف الرئيسية لمختلف حكومات العالم بثلاثة وهي 3D
التنمية (Development)- الديموقراطية (Democracy) – الحوار (Dialogue)
نهج الحوار في لبنان
اما في لبنان الذي يتميز بتعددية فريدة، فالحوار يجسد روح الدستور اللبناني، ومن خلاله يمكن الوصول إلى فهم مشترك لمفردات ومصطلحات العقد الإجتماعي المتمثل بوثيقة الوفاق الوطني (الطائف). وقد ظهر جليا في تاريخ لبنان السياسي القديم والحديث إن تعثر الحوار انعكس سلباً على تطبيق الدستور وعطل تنفيذ الاستحقاقات الدستورية وتشكيل الحكومات، والعكس هو صحيح.
وقد سلك لبنان نهج الحوار منذ الاستقلال من الميثاق الوطني الى الان، وقد عرّف ميشال شيحا المجلس النيابي اللبناني على انه ليس فقط منتدى يجمع ممثلين عن الشعب بل قبة تتحاور تحت سمائها حضارات الاديان (ولا تتصادم).
كما دأبت الفعاليات والمرجعيات اللبنانية على عقد حلقات حوار في الخارج والداخل في المجتمعين السياسي والمدني وفي القمم الروحية. وابرز هذه الحوارات عقدت في سويسرا وفرنسا والطائف ودول اخرى، كما في لبنان. قسم من هذه الحوارات اعطى نتائج ايجابية مثل الميثاق الوطني ووثيقة الوفاق الوطني (الطائف) وصولاً الى حوار القصر الجمهوري وصدور "اعلان بعبدا" في 11 حزيران 2012.
كما شارك لبنان الرسمي (رئيس الجمهورية) في ندوات عالمية لحوار الاديان والحضارات مثل:
مؤتمر "حوار الاديان والحضارات" في الأمم المتحدة - نيو يورك في 12 تشرين الثاني 2008 بدعوة من المملكة العربية السعودية.
مؤتمر " الحوار والحقيقة والديموقراطية"، الذي نظمته اليونسكو في بيروت في 4 كانون الأول 2013.
مؤتمر "الإعلام وثقافة الحوار الانساني" في جنيف الذي اطلقه العميد الدكتور علي عواد وصدر عنه "إعلان جنيف".
هذا بالاضافة الى الاجتماعين المهمين حول "الدبلوماسية الوقائية"، و"الحوار بين الثقافات من اجل السلام والامن الدولي" الذي عقدهما لبنان في مجلس الامن خلال عضويته غير الدائمة عامي 2010و2011 وقد ترأست الاجتماع الثاني أنا شخصياً كما ترأس الأول رئيس الحكومة (وقتذاك) سعد الحريري، وقد دعا معظم رؤساء لبنان من على منبر الامم المتحدة الى اعتماد لبنان مركزاً لحوار الحضارات والاديان كما فعلت انا في عام 2008 وفعل مؤخراً الرئيس العماد ميشال عون.
مفهوم الحوار
يهدف الحوار، حسب تعريف اليونسكو، الى ضمان التنمية المستدامة للجماعات البشرية وتعميم قيم التسامح والعدالة. وفي حين يختلف الحوار عن مذكرات التفاهم بين جهتين او الاتفاقات الثنائية، فهو يهدف بالاعتماد الى الحقائق والمشتركات التي تتناول السيادة والاستقلال والحرية، وإلى تطوير الممارسة الديمقراطية، بما يساهم بشكل أساسي في رفع الظلم وترسيخ العدالة، وإزالة الحرمان من الحقوق والهوية.
في هذا العصر، لا يمكن تعزيز المواطنة ومجابهة تحديات التطور العلمي إلا بالحوار، فالتنوع يجب ألا يؤدي بمكونات الدول المتعددة إلى الذوبان في الأكثرية، كما بالدول الصغيرة إلى الذوبان في العولمة. وفي المقابل، على الحوار أن ينقذ هذه الدول من التقوقع والانعزال، عبر مواكبة الثورة الرقمية والحرص على تجنيب الانسان والمجتمع مخاطرها.
بين الحوار والدبلوماسية الوقائية والوساطة
لقد وصف الاقتصادي السويدي داغ همرشولد (الأمين العام للأمم المتحدة 1953 - 1961) الدبلوماسية الوقائية انها "إحدى أذكى الاستثمارات التي يمكن ان نقوم بها"، كما حدَّد هدفها الامين العام للامم المتحدة (1992 – 1997) بطرس بطرس غالي بأنـه "ليس فقط العمل على منع نشوء النزاعات، بل منع تفاقمها وتحولها الى صراعات، والحؤول دون انتشارها".
ولو وجدت المبادرة العربية للسلام سبيلاً الى التطبيق بوساطة دولية، ونفذت اسرائيل القرار 425 (1978)، كان قيض للمنطقة توفير الكثير من الحروب الدامية والمآسي، وتلافي الاخطار التي تحيط بنا اليوم من جراء ما يجري في غزة والقدس.
كما على الدبلوماسية الوقائية السعي الجدي لتطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته ومعالجة عودة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الى ارضهم والسوريين المنتشرين في لبنان والدول الأخرى الى ديارهم نظراً للترددات الكارثية لهذا النزوح علينا وعلى النازحين انفسهم وعلى سوريا بالذات لتدارك احتمال نشوب نزاعات عنيفة. بالاضافة الى ضرورة إيجاد الحلول السياسية لسوريا والعراق واليمن.
وبقدر ما يبتعد الحوار الداخلي عن الوساطة، وتجنب التدخلات الدولية، بقدر ما ينجح في الوصول الى حلول مستدامة للنزاعات.
الحوار الوطني إجراء رسمي داخلي، يعتمد على بناء الثقة بين النخبة السياسية والمجتمع المدني، ويهدف الى البحث عن حلول عملية وسياسية للمشاكل الاساسية التي يتعذر ايجادها في المؤسسات الدستورية. وقد وصف المرحوم غسان تويني المفكر والسياسي والدبلوماسي اللبناني هيئة الحوار الوطنِي اللبنانية بانها "إبداع ديموقراطي" تجمع الموالاة والمعارضة والمستقلين والمجتمع المدني والسلطات الدستورية، حيث تجري المناقشات خارج وطأة التصويت والربح او الخسارة السياسية. هذا وقد اقترح الالتزام بميثاق شرف وافق عليه الجميع وجاء في مقدمة "إعلان بعبدا".
إن العملية الحوارية هي عملية وطنية شاملة، يسهل استدراج الدعم الدولي والاقليمي لها دون تدخل أو مس بالسيادة. وليس من سبيل المبالغة القول ان نتائج الحوار اللبنانِي ادت الى اعتماد "ميثاق شرف" صالح لكلِ الظروف، واقرار "اعلان بعبدا" الذي جسد عملية سياسية تهدف الى "تحييد لبنان عن صراعات المحاور". هذا الاعلان منع على الاقل صراعات في الداخل انعكاساً للصراع الاقليميّ كما ان عرض "الاستراتيجية الوطنية للدفاع عن لبنان" على هيئة الحوار دون ان يتسنى مناقشتها، استدرج الدعم العسكري للجيش اللبناني. مع الاشارة ان "اعلان بعبدا" المشار اليه أعتُمد وثيقةً رسميةً في الامم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الاوروبي، وأيدته معظم الدول، وبناءً عليه تم تأسيس مجموعة الدعم الدولية للبنان من قبلِ الدولِ الخمس +2 ومنظمة الامم المتحدة والجامعة العربية (International Support Group For Lebanon) أو ISG اختصاراً.
خريطة طريق "لقاء الجمهورية"
لذلك، وسعياً إلى استعادة زمام المبادرة الداخلية اقترح "لقاء الجمهورية" اطلاق الحوار لمناقشة خطة الانقاذ التالية:
- آليات تطبيق التحييد
- الاستراتيجية الدفاعية
- مراجعة الاتفاقات مع سوريا
- تشكيل هيئة الغاء الطائفية السياسية
- اللامركزية الادارية
- تعديل قانون الانتخاب النسبي لنزع الصفة المذهبية (الأرثوذوكسية) عنه
- اقرار قانون استقلالية القضاء وتعديل قانون المجلس الدستوري واقرار الزواج المدني الاختياري
- ايجاد حلول للاشكالات الدستورية والعمل بسرعة قصوى على تعديلين رئيسيين تلافياً لتعطيل الدستور
أولاً: تحديد آلية لانتخاب الرئيس ضمن المهلة الدستورية تحت طائلة حل مجلس النواب وإبقاء رئيس الجمهورية لمدة شهر إضافي بعد انتهاء الولاية لتأمين الانتخاب.
ثانياً: تحديد مهلة لتشكيل الحكومة أقصاها 3 أشهر تحت طائلة إعادة الاستشارات على ان يكون الاحتكام إلى ثقة المجلس النيابي في عدم موافقة رئيس الجمهورية على التشكيلة، واذا تكرر التكليف لنفس الشخص وتكرر التعذّر يحلّ المجلس النيابي.
الخاتمة
الحوار حول الملف النووي الايراني اثمر تهدئة في المنطقة قبل ان يصبح اتفاقاً ناجزاً في حين ان خروج الولايات المتحدة مؤخراً منه وقرار نقل السفارة الاميركية الى القدس وقيام اسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري والكلام عن صفقة القرن، اججت الاضطرابات في الشرق الاوسط. ولحسن الحظ، يبقي استمرار الاطراف الاوروبية على الالتزام بالاتفاق النووي ومتابعة الحوار مع ايران، على الأمل بحل النزاع، وكذلك على عدم مجاراة معظم الدول للولايات المتحدة في نقل سفارتها الى القدس.
يتطلب العالم الجديد مضاعفة الجهود وخلق مساحات حوار دائمة ومشتركة بين مكونات المجتمع والكيانات المتعددة، كما ينبغي مواكبة التطور العلمي بتطوير الانظمة التي تدير شؤون الناس، لجعلها اكثر انسانية تحفز المشاركة وتحفظ حقوق المكونات الحضارية للدول. وهذا يقع على عاتق الدول كافة وبخاصة الكبرى منها، والمنظمات الدولية.
فإن أتى الحوار بعد نشوب النزاعات ستكون نتائجه محكومة بالمكاسب المحققة على الارض، أما إذا حصل استدراكاً للنزاعات، ستأتي نتائجه اكثر عدالة، و"خير البرّ عاجله".

الثلاثاء 19 شباط 2019

إرسال تعليق

 
Top