0
حربٌ ساخنة، تهريبة، هدية مسمومة، أفخاخ، عضّ أصابع، انقلاب، قطب مخفية، مكائد، مبادرات ملغومة، قتال بالحقائب، والمَخْفي أَعْظَم. هذا غيضٌ من فيض المصطلحات الرائجة التي تضجّ بها أزمةُ ثقةٍ متعاظمةٍ بين الأطراف اللبنانيين حيال ما آلتْ إليه مساعي الشوط الأخير من رحلة السبعة أشهر الصعبة لإنجاز تشكيل الحكومة الائتلافية التي كلّما أشيع عن اقتراب ولادتها بدتْ أكثر استعصاءً ليعود دورانُ عجلاتِ التأليف... إلى الخلف.
ومع سقوطِ المواعيد الافتراضية للإعلان عن الحكومة الواحد تلو الآخر، يصعب التكهنُ بإمكان الإفراج عنها بما تبقى من السنة الحالية، ما سيجعل أخبارَها مادةً شيقة في توقعات المنجّمين والفلكيين والبصّارين وقارئي الكفّ الذين يغزون الشاشات اللبنانية ليلة رأس السنة، في واحدة من ظواهر الخواء السياسي الذي تعيشه البلاد في كنف لاعبين يلْهون على حافة الهاوية وربما في قلبها، مع انكشاف المأزق السياسي - الدستوري على ما هو أدهى.
ورغم التحريات الدائمة عما إذا كان «الصندوق الأسود» لاحتجاز الحكومة، داخليّ أم على صلة بالصراع الكبير في المنطقة، فإن ما هو ظاهرٌ من رأس جبل التعطيل، أن عملية الإفراج عنها كانت بلغتْ مرحلةَ إعدادِ مراسيم تشكيلها لمرّتين بفارق نحو شهرٍ وعشرة أيام.
المرة الأولى حين أطل الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطاب «توبيخٍ» للجميع، رؤساء وبطاركة ومفتين وآخَرين، معلناً أن لا حكومة من دون توزير أحد النواب السنّة (الستة) الموالين لحزبه، والذين أُعِدّت لهم كتلةٌ على عَجَل. وفُهِمَ يومها من خلال العقدة المفاجئة التي رُميت في طريق ولادة الحكومة في اللحظة التي كان يستعدّ الرئيس المكلف سعد الحريري لزيارة القصر الجمهوري إيذاناً بإعلانها بالتوافق مع رئيس الجمهورية ميشال عون، أن «حزب الله» يريد جعل السنّة الموالين له دفرسواراً في الحكومة لاصطياد عصفوريْن في حجر واحد: مشاركة الحريري بالتمثيل السني وإظهاره ضعيفاً، وحرمان فريق عون من القبض على الثلث المعطّل في الحكومة (الإمساك بـ11 وزيراً من أصل 30).
أما المرة الثانية عشية عيد الميلاد، فارتبطت بالمَخْرج الذي أُعِدّ لفكفكة عقدة توزير النواب السنّة الموالين لـ «حزب الله» الذين شكّلوا لقاءً تشاورياً، وهو المَخْرَج الذي تضمّنته مبادرة لعون قامت على المقايضة الآتية: قبول رئيس الجمهورية بتمثيل هؤلاء عبر المقعد السني من حصته، وقبول مجموعة الستة بتوزير شخصية تنوب عنهم، وقبول الحريري الاعتراف بهم كـ «كتلة نيابية» عبر استقبالهم. وأُدْرِجت هذه المقايضة من ضمن مبادرة من خمس نقاط تولى الاتصالات في شأنها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم.
ورغم أن ملابسات التفاهم على اسم جواد عدرا، الشخصية المستقلّة ذات العلاقة الجيدة مع جميع الأطراف، على تمثيل السنّة الستة في الحكومة، ومن ثم الإطاحة به، ما زالت تحكمها رواياتٌ متناقضة، فإن الثابت هو ان سقوط التفاهم كان نتيجة صراعٍ، سرعان ما خرج إلى العلن، بين «حزب الله» وفريق عون، ممثلاً برئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل على «المرجعية السياسية» لعدرا... هل رئيس الجمهورية أم السنّة الموالون للحزب؟ وهو الصراع الذي ينطوي على المعركة الأساس الدائرة حول الثلث المعطل، والذي يريده باسيل ويتصدّى له «حزب الله».
ولم تؤد الاتصالات المتسارعة بين قيادتيْ «التيار» والحزب للململة ذيول المواجهة الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي إلى طمْس أزمةِ الثقة بين الحليفين اللذين سبق أن تَشاركا في «طبْخ سمّ» الثلث المعطل بعد اجتياح الحزب لبيروت في 7 مايو 2008 وانتزَعاه عبر اتفاق الدوحة وأطاحا بموجبه بحكومة الحريري في الـ 2011، وهما الآن يتصارعان على ضفافه من خلْف ظهر اتفاق الطائف الذي «ينْتحرونه» لاعتقاد فئةٍ أنها قادرة على التعويض عما خسرتْه، ولطموحِ فئةٍ أخرى ترى أنه أضيق من مكانتها.
ولم يكن أدلّ على بلوغ مأزق تشكيل الحكومة مستويات غير مسبوقة من التأزم، من الوجوم الذي طبع إطلالة عون من مقر البطريركية المارونية التي زارها للمشاركة في قداس الميلاد وكلامه البالغ التعبير في الساعات الماضية عن «حرب ساخنة تُشنّ على العهد» و«معركة سياسية تعطّل تشكيل الحكومة» واستهجانه لـ «أعراف وتقاليد جديدة تُفرَض في تأليفها»، وبدا كأنه يتوعّد عبر وجهه المتجهّم بأن «للصبر حدوداً».
وفَتَحَتْ هذه المواجهة، التي لم تعد مكتومةً، بين «التيار» والحزب، شهية أسئلة من نوع هل «شهر العسل» بين الحليفين الممتدّ من العام 2006 أصبح أمام اختبار مُرّ بعد مَلامح انكسار الجرّة؟... الأكيد أن مساراً جديداً بدأ بين الطرفيْن بعد انتخاب عون رئيساً وتسلُّم باسيل «الدفّة»، وهو مسارٌ مغايرٌ لِما كانت عليه المعادلة التي حكمتْ العلاقة بينهما سابقاً والتي قامتْ على كسْر قواعد اللعبة وتوازُناتها بالتكافل والتضامن عبر القوة أو التعطيل لضمان امساك «حزب الله» بالإمرة الاستراتيجية وموجباتها ولفتْح طريق عون أمام الوصول الى السلطة، الأمر الذي نجحا في تحقيقه بمواجهة الآخَرين قبل أن يصبحا الآن وجهاً لوجه. فـ «العونية» تريد أن تحْكم وتضمن استمرار حكمها، و«حزب الله» يريد الاحتفاظ بـ «السيطرة والتحكم».

"الراي الكويتية" - 26 كانون الأول 2018

إرسال تعليق

 
Top