0
الأسباب التي آلت إلى مشهد الانفراج في تشكيل الحكومة العتيدة لا تزال غير جليّة. ثمة مراقبون يربطون التفاؤل الراهن إلى جملة عناصر متداخلة، أغلبها خارجي، أدّت إلى حلحلة الكثير من العُقد الداخلية التي كانت الأطراف السياسية تستفيد منها في الوقت الضائع لتحسين شروطها.

في خلفية المشهد داخلياً، تشتدّ الأوضاع الاقتصادية والنقدية حراجة في البلاد وسط أفق مسدود لا يمكن أن يخرقه سوى بدء تنفيذ المشاريع التي رصد لها مؤتمر «سيدر» الأموال وربطها بتأليف حكومة في لبنان، على أن تكون تلك الحكومة متوازنة. ومفهوم الحكومة المتوازنة حدده الرئيس المكلف سعد الحريري على أنه «حكومة وحدة وطنية» تشبه إلى حد كبير الحكومة الحالية، وتُشكّل بطريقة أو أخرى استمراراً لها. وهي الصيغة التي ستولد في نهاية المطاف، بعدما بدأت السقوف العالية من المطالب بالانخفاض.
أما في المشهد خارجياً، فهناك تراجع لانخراط لبنان في المواجهة الإقليمية، الذي كان يُجسّده بشكل أساسي «حزب الله»، نتيجة تغيّر جوهري بدايته على الساحة السورية، حيث التفاهمات الكبرى في الجنوب السوري تتكرّس، وكذلك الحال في إدلب، رغم إمكان تسجيل خروقات على تلك الجبهة لن تخرج عن السقف المضبوط، بما يهدد الاتفاق الروسي - التركي، وسط توافق دولي على استمرار رأس النظام السوري بشار الأسد، الذي يُشكّل بقاؤه ضمانة حقيقية لما استثمرته إيران وأذرعها في شخصه كجزء من تحالف استراتيجي تعمّق وتجذر أكثر مع توليه الحكم. وقد عبّر الأسد بوضوح على متانة هذا التحالف، حين وقّع في آب الماضي اتفاقاً عسكرياً مع طهران في غمرة الضغوط الأميركية على الروس لانسحاب القوات الإيرانية وأذرعها العسكرية من سوريا.
والتغيّر في الإقليم شمل العراق الذي يعيش، راهناً، تعايشاً إيرانياً - أميركياً من خلال التسوية السياسية التي أنتجت انتخاب رئيس لمجلس النواب ورئيس للجمهورية وتعيين رئيس للحكومة من المتوقع أن تُبصر حكومته النور في زمن معقول، ويبدو الوضع في اليمن على حاله من المراوحة، رغم تقدّم القوات الشرعية مدعومة من التحالف، ما يؤشر إلى استمرار «الستاتيكو» الراهن إلى أمد.
لكن المعطى الأبرز الذي لا يمكن إغفاله يتمثل باقتراب الرابع من نوفمبر، موعد بدء تطبيق الحزمة الأقسى من العقوبات الأميركية على إيران، وهي مرحلة اعتبرها الأمين العام لـ «حزب الله» خطيرة وفاصلة، تتطلب منه الوقوف إلى جانب الجمهورية الإيرانية، واشتداد حصار واشنطن على «الحزب» مع تصويت مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة على «الحزب» بهدف الحدّ من قدرته على جمع المال وتجنيد عناصر له، وبهدف زيادة الضغط على المصارف التي تتعامل معه، وتصنيفه على أنه من جماعات الجريمة العابرة للحدود، الذين ستُفرض عليهم عقوبات أكثر صرامة.

فعلى الرغم من أن قضية الصحافي السعودي جمال خاشجقي قد حرفت الأنظار الإعلامية عن إيران باتجاه المملكة العربية السعودية ووضعتها تحت ضغط المجتمع الدولي، لكن ذلك لا يعني خروج إيران من دائرة المواجهة وتفلتها مما ينتظرها من عقوبات ومن أيام صعبة، وتلك حقيقة يعرفها حلفاء محور طهران، وفي مقدمهم «حزب الله».
في المعلومات، أن القاهرة لعبت دوراً مهماً، إلى جانب باريس، في عملية تسهيل التأليف عبر إزاحة ما أمكن من العقبات التي كانت تعوّق الحريري. ولا تزال كل من مصر وفرنسا ماضية في استكمال تأمين الغطاء الدولي والإقليمي ولا سيما السعودي لإتمام المهمة. فلقاءات رئيس الجمهورية ميشال عون على هامش أعمال الجمعية العمومية في نيويورك، ولقاؤه نظيره الفرنسي في يريفان على هامش القمة الفرنكوفونية حلحلت تصلبه، وكذلك فعل تدخّل «حزب الله» الذي ينقل لصيقون به، أن تصلّب الرئيس، ولا سيما حيال «القوات اللبنانية» والرغبة في تحجيمها، يفوق أشواطاً ما برز من تصلب لدى صهره جبران باسيل، فيما يعكس تراجع «حزب الله» عن تمثيل السنّة المعارضين المحسوبين عليه في الحكومة رغبة إيرانية في تسهيل التأليف.
وعلى رغم المناخات الإيجابية التي عبّر عنها عون والحريري وتوقع ولادة الحكومة بين ليلة وضحاها، فإن الحذر لا يزال يشوب البعض. وحسب ما وصل إلى أحد المرشحين لدخول الحكومة العتيدة، فإن الرئيس المكلف التقى رئيس الجمهورية بعيداً عن الأضواء، وجرت جوجلة أفكار، من دون أن يعرض عليه تشكيلة خطيّة، مع توقع أن يُقدّم مطلع الأسبوع المقبل تشكيلته إذا تذللت كل العقبات، ذلك أن أي تعديل يطال صلب التركيبة قد يُعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
الحذر المشروع تُخفف منه، - حسب ما يؤكده لصيقون بـ «حزب الله» - توافقات جرى صوغها بين «الثنائية الشيعية» وعون والحريري على طريقة عمل الحكومة، إذ أن الحكومة المقبلة لن تتطرّق إلى أي ملف خلافي، ومسألة «الثلث المعطل» لن يكون هناك من حاجة إليها، إذ أن «قواعد الاشتباك» تنص على تمرير القرارات بالتوافق من دون حاجة للوصول إلى مرحلة التصويت، مع تعليق النقاش على أي مسألة يمكن أن يحصل خلاف في شأنها. ذلك أن «قواعد الاشتباك» تمنع وجود متاريس سياسية داخل الحكومة، ذلك أن الأطراف المؤثرة فيها تريد أن تكون «حكومة منتجة»، وأن تسود روح التفاهم بين القوى السياسية بدل المناكفات.
وسلّة التفاهمات تشمل كذلك إبقاء الحكومة بعيدة عن الصراعات الإقليمية وعن النزاعات الخارجية بعدما خفّت حدة الاستقطاب بين القوى السياسية. وستبقى العناوين المتعلقة بعودة النازحين وضرورة إحياء العلاقة الرسمية اللبنانية - السورية التي كان يثيرها حلفاء سوريا، خارج أسوار مجلس الوزراء، حيث أن العودة الطوعية للنازحين ستستمر كما هي الحال راهناً من دون محاولة الضغط على الحريري لاتخاذ خطوات تحت عنوان «مصلحة لبنان».
فورقة «معبر نصيب» التي جرى التلويح باستخدامها لليّ ذراع الحريري تم تجاوزها، وسيُعيد لبنان التصدير البري عبره من دون ربطه باشتراطات سياسية من قبل الجانب السوري، فيما بات حلفاء سوريا على إدراك تام من أن عودة العلاقات اللبنانية - السورية إلى طبيعتها ترتبط بعودة العلاقات العربية - السورية إلى طبيعتها، والتي ستكون أبرز تجليّاتها استعادة النظام السوري مقعده في الجامعة، حيث يعمل بعض الدول العربية، وخصوصاً الأردن ومصر، على تأمين مشاركة نظام الأسد في القمة العربية المزمع عقدها في آذار 2019. فبعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، لا يعود من مبرر لعدم تفعيل العلاقات الرسمية بين البلدين.
وولادة الحكومة من شأنها أن تعطي إشارة تجديد التسوية السياسية بشروط أفضل للحريري ستجسّدها سلة التفاهمات، لكن سمة الإنتاجية ستفتح في واقع الأمر الطريق أمام استكمال الملفات الحيوية الكبرى التي كانت مطروحة في زمن الحكومة الراهنة، من دون تغيير فعليّ في ذهنية إدارة البلد.
جلّ ما هو خارج السياق الراهن، قرار «حزب الله» عدم تكريس معادلة «الفيتو الأميركي» على وزارات معينة. كان «الحزب» قد آثر التخلي عن حقيبة الصحة من أجل ضمان عدم عرقلة أي تمويل دولي لبرامج تنفذها الوزارة، ولكن بعد إشهار المسؤولين الأميركيين لـ «الفيتو»، عاد «الحزب» عن قراره لعدم تكريس هذه المعادلة. وقد يتراجع «حزب الله» في اللحظة الأخيرة، وعينه، كما تسرّب، هي على وزارة الأشغال!

يُدرك «حزب الله» أن الحريري سيستخدم كل علاقاته لتجنيب لبنان تداعيات المواجهة الإيرانية - الأميركية، وهنا بيت القصيد...

رلى موفّق - "اللواء" - 19 تشرين الأول 2018

إرسال تعليق

 
Top