0
الصلاحيات في لبنان وهم كبير، لأنّ حدود ممارسة كل طرف لصلاحياته تقف عند حدود الطرف الآخر أو الجماعة الأخرى، ومع نشوء نزاع صلاحيات بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة هناك من يسأل: هل «حزب الله» يقف خلف هذا النزاع؟

أصاب مجلس المطارنة الموارنة في بيانه الشهري الأخير لجهة استغرابه «أن تُفتح لدى كل استحقاق دستوري، قضايا في الدستور تكون طَي الكتمان أو النسيان في أوقات الاستقرار الدستوري، وهو الوقت المناسب لطرحها ليتم التفكير فيها بهدوء بعيداً من التحدي والمنازلات السياسية».


فلا شك انّ في الدستور الكثير من الثغرات التي تستدعي إعادة النظر لحسن سير العمل والانتظام المؤسساتي، وليس لتعزيز صلاحيات جهة معينة أو انتزاعها من جهة أخرى، وأي إعادة نظر يجب ان تتم، وفق ما جاء في بيان المطارنة، في زمن الاستقرار وليس اللااستقرار، ولهدف أوحد هو منع الفراغ وتحصين الاستقرار وتثبيت الانتظام.


وكل التجربة اللبنانية أثبتت انّ الصلاحيات وهم، وليس في إمكان اي جماعة استخدامها ضد الجماعة الأخرى، لأنّ لبنان لا يحكم إلّا بالتوافق، وهذا لا يعني عدم الالتزام بالنصوص الدستورية، بل على العكس ضرورة التقيّد بالنصوص والسعي باستمرار الى وضع معايير واحدة وعلمية تسقط ذريعة أي طرف بعدم الالتزام، كذلك السعي إلى تفسير الدستور بروح إيجابية تحت عنوانَي الانتظام والاستقرار، لا الفراغ والتعطيل.


والنزاع الذي نشبَ أخيراً لم يبدأ مع بيان رئاسة الجمهورية على أثر الصيغة التي قدّمها الرئيس المكلف لرئيس الجمهورية، إنما بدأ مع الاجتهادات الدستورية حول انّ مهلة الرئيس المكلف لتشكيل حكومة ليست مفتوحة، علماً انّ النصوص الدستورية تقول بوضوح انها مفتوحة، والعودة إلى النصوص الأصلية تؤكد هذا الاتجاه، والمقصود النقاشات التي حصلت في «اتفاق الطائف» والتي رفضت بنحو قاطع تحديد المهلة منعاً لاستخدامها من أجل الابتزاز والضغط وإمرار الوقت لإسقاط التكليف والذهاب إلى تكليف جديد، وفي كل ذلك تحويل مدة التكليف سيفاً موجهاً الى رقبة الرئيس المكلف.


فالنزاع على الصلاحيات لم يولد بالمصادفة او من عدم، بل كان الهدف منه التهويل على الرئيس المكلف ظنّاً انه سيخضع لهذا التهويل بغية السير بحكومة أكثرية أو حكومة أمر واقع، لأنّ الهدف الأوحد منذ لحظة تكليف الرئيس سعد الحريري الوصول إلى حكومة في الحد الأقصى من دون «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الإشتراكي»، وفي الحد الأدنى بتحجيمهما وكسرهما، وهذا الهدف لم يتبدل منذ اللحظة الأولى وما زال مستمراً.


وفي اللحظة التي اكتشف فيها الفريق الذي يعمل على إحراج «القوات» و»الإشتراكي» لإخراجهما او تحجيمهما انّ الرئيس المكلف لن يغطي سياسة الإقصاء والتحجيم، لجأ إلى الاشتباك معه في محاولة لتخييره نظرياً بين السير بمآربه أو دفعه الى الاعتذار، ولدى اكتشافه انّ الرئيس المكلف ليس في هذا الوارد حَوّل مواجهته في اتجاهه لعلّه يكسر بهذه المحاولة «الستاتيكو» الحكومي بغية الوصول إلى التشكيلة التي تنسجم مع مشروعه الإقصائي.


ومعلوم انه مع تقديم الرئيس المكلف صيغته الحكومية دخلت البلاد في فراغ طويل، لأنّ «القوات» التي قدمت كل التنازلات والتسهيلات الممكنة وصلت إلى سقف لم يعد بمقدورها التنازل عنه، والأمر نفسه بالنسبة الى «الإشتراكي» الذي يقارب المسألة من زاوية وجودية، فيما الحريري لن يبدِّل في الصيغة التي قدمها، ولا يبدو انّ رئيس الجمهورية سيتراجع عن نظرته الى تمثيل «القوات» و«الإشتراكي». وبالتالي، أمام هذا المشهد بات الفراغ سيّد الموقف، ومعلوم انّ عامل الوقت لا يلعب هذه المرة لمصلحة رئيس الجمهورية، فقرر الفريق اللصيق به فتح معركة الصلاحيات اعتقاداً منه انه يستطيع عبر هذه الطريقة ان يفتح ثغرة في «ستاتيكو» الفراغ من دون أن يأبه للضرر الذي يكون قد أدخل البلاد به من خلال تحويل النزاع من سياسي إلى طائفي تمّ إقفاله مع «اتفاق الطائف»، فإذا بهذا الفريق يستعيد أدبيات تنتمي إلى زمن الحرب الأهلية.


وما تجدر ملاحظته على هذا المستوى انّ الرأي العام المسيحي لم ينجرّ هذه المرة إلى هذه المعركة، لأنه سئم منطق المواجهات للمواجهات، فيما كان ينشد الاستقرار والإزدهار، فإذا به يكتشّف انّ هناك من يريد إعادته الى التسخين والتشنيج والتوتير ليس لأهداف وطنية ومبدئية، بل في سبيل حقيبة من هنا او وزارة من هناك، وبخلفية إقصائية وتحجيمية.


وفي الوقت الذي اصطَفّت الطائفة السنية كلها خلف الحريري الذي استعاد «بطريركيته» على الطائفة بنحو غير مسبوق منذ العام 2005، بل بنحو متقدّم على لحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، لأنّ مشروعيته كانت على خلفية دم الشهيد الحريري، فيما مشروعيته اليوم سياسية بامتياز، لا تقف الطائفة المسيحية من كنيستها إلى قواها السياسية الحزبية والمستقلة خلف الفريق المسيحي الذي فتح معركة الصلاحيات، وحتى تكتله النيابي لا يسانده بكل مكوناته في هذه المعركة.


وأمام كل ذلك يحلو للبعض القول انّ المعركة التي فتحها الفريق اللصيق برئيس الجمهورية يقف «حزب الله» خلفها، وانه لا يمكن للحزب ان يكون بعيداً عنها كونها تدخل من ضمن أجندته السياسية، ولكن لا بد في هذا السياق من تسجيل الآتي:

ـ أولاً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في تقوية الحريري وتعزيز مكانته داخل الطائفة السنية؟ بالتأكيد كلا.

ـ ثانياً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في ضرب ونسف مفاعيل القانون النسبي الذي سعى إليه في محاولة لإيصال كتلة نيابية سنية حليفة له؟ بالتأكيد كلا.

ـ ثالثاً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في تعطيل فعالية النواب السنّة الذين تم انتخابهم؟ بالتأكيد كلا.

ـ رابعاً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في إعادة توحيد البيت السني وشد عصبه الذي يمكن ان يتحول في أي لحظة ضده؟ بالتأكيد كلا.

ـ خامساً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في ضرب الاستقرار والدخول في مواجهة طائفية والعودة إلى الانقسام العمودي، في الوقت الذي يخشى من توريطه لاستهدافه بالتزامن مع الضغط على طهران ومحاصرتها في الداخل الإيراني والخارج؟ بالتأكيد كلا.

ـ سادساً، هل مصلحة «حزب الله» تكمن في عدم تأليف حكومة لأسباب محلية ثانوية قد تؤدي مع الوقت إلى دخول العامل الدولي والإقليمي على الخط ووضعه «فيتو» على حكومة يشارك فيها الحزب؟


فلكل هذه الأسباب وغيرها، لا علاقة منطقياً وموضوعياً لـ»حزب الله» بحرب الصلاحيات الدائرة، فيما الانزعاج منه يكمن في وقوفه على الحياد في ظل محاولات لتوريطه بالمواجهة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن ان يتدخّل الحزب لدى حليفه ليقول له انه لم يعد في قدرته السكوت ولا الانتظار أكثر؟

شارل جبور - "الجمهورية" - 7 أيلول 2018

إرسال تعليق

 
Top