0
من باب خرق «حزب الله» لمبدأ «النأي بالنفس» استقال رئيس الحكومة سعد الحريري، ومن باب تأكيد الالتزام بـ«النأي» عاد عن الاستقالة. بات تعبير «النأي بالنفس» يتداوله الصغار والكبار ومصطلحاً مُلازماً للسياسة الخارجية اللبنانية، وإنْ كان قولاً لا فعلاً وشكلاً لا مضموناً.
 
في الأصل، كان حزب الكتائب اللبنانية بزعامة بيار الجميل من الداعين الدائمين لاعتماد لبنان سياسة «الحياد الإيجابي». ويعود ذلك إلى الرغبة في تحييد لبنان عن الصراع العربي – الإسرائيلي الذي دفع فيه هذا البلد ثمناً أكبر من قدرته، خصوصاً بعدما انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان وتوقيع لبنان «اتفاق القاهرة» لتنظيم الوجود المسلح الفلسطيني.
 
لم يشق هذا المطلب طريقه إلى حيز التنفيذ بفعل رفض قوى لبنانية عدة له، لكنه بقي على الدوام مطلباً رئيسياً للمسيحيين وللكنيسة المارونية بشكل عام. 
 
في السابق كان شعار «قوة لبنان في ضعفه» السمة الغالبة. عقب تنامي دور المقاومة في لبنان التي بدأت علمانية وانتهت إسلامية لظروف عدة، وعقب انسحاب إسرائيل من جنوبه عام 2000، أصبح هذا الشعار مدار سخرية لدى شريحة من اللبنانيين يعتبرون أن قوة لبنان في معادلته الذهبية «جيش وشعب ومقاومة»، وهي المعادلة التي أمنت الغطاء الشرعي لوجود سلاح «حزب الله»، والذي ارتدّ على الداخل اللبناني في 7 أيار/مايو 2008 ولا يزال يتحكم به.

الفرصة الضائعة!

مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري في لبنان وبروز الانقسام العامودي، عاد المطلب إلى الواجهة، وعمل رئيس الجمهورية في ثمانينات القرن الماضي أمين الجميل الإبن على الدفع قدما لتبني سياسة الحياد كي يصبح شعار «قوة لبنان في الحياد الإيجابي» السمة الجديدة، غير انه بقي يصطدم بالرفض، رغم أن المفهوم القانوني لـ»الحياد الإيجابي» لا يعني الابتعاد عن مناصرة القضايا العادلة بل الابتعاد عن سياسة المحاور.
 
لكن مفهوم «الحياد» بحد ذاته يشكل «نقزة سياسية» لدى كثير من الأطراف الداخلية ربما بفعل ارتباطاتها الخارجية، ذلك أنه يُعبر عن سياسة متكاملة للدولة تحتاج إلى التزام صارم وإجراءات وتعهدات تشمل الدول المجاورة لها واعترافاً دولياً. 
 
لبنان الذي عُرف بـ«سويسرا الشرق» يطمح بعض أبنائه إلى استكمال تمثله أو تماهيه بسويسرا الغرب، الدولة الحيادية الأولى في العالم. هو طموح مشروع دون شك، لكنه ليس طموح جميع اللبنانيين، ودونه عقبات سياسية كثيرة.
 
غير أن اشتداد حدة الانقسام الداخلي على وقع التطورات الإقليمية والدولية جَعَل لبنان على مفترق طرق، فكان أن اجتمعت «هيئة الحوار» التي تضم مختلف الأطياف السياسية برئاسة رئيس الجمهورية ميشال سليمان في 11 حزيران/يونيو 2012، وخرجت بما يُعرف بـ«إعلان بعبدا» الذي شكّل نوعاً من الاتفاق السياسي أو ملحقاً لـ»اتفاق الطائف» نصّ على تحييد لبنان. لكن بعضاً من الزعامات والقيادات يتجنب ذكْر هذا الإعلان الذي تبناه مجلس الأمن الدولي والمجموعة الأوروبية والجامعة العربية، بعدما قال «حزب الله» للبنانيين بالعامية «بلو واشربو ميتو» يوم تم انتقاده على خرق «إعلان بعبدا» بانخراطه في الحرب السورية. 
 
الخشية، من جهة، و«الكيدية السياسية» لبعض القوى، من جهة ثانية، تُغيّب الإشارة إلى «إعلان بعبدا» الذي تؤكد عليه على الدوام المنظومة العربية والمجتمع الدولي ويغيب معها تعبير «التحييد» ليحل مكانه تعبير «النأي بالنفس».
 
في الاعتقاد السائد لبنانياً، أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي تشكّلت على أنقاض الإطاحة بحكومة الحريري الأولى عام 2011، هي من أدخل تعبير «النأي بالنفس» إلى القاموس السياسي اللبناني. والرئيس ميقاتي الذي دأب على الدوام إلى الاستعانة بجملة «أنأى بنفسي» ولاسيما في الأزمة السورية، ينتابه الفخر بأن الحكومات التي تلت حكومته تعتمد التعبير نفسه.

غضب إيران وأمريكا

لكن التدقيق في هذا الموضوع يؤول إلى الاستنتاج أن هذا التعبير حول سياسة «النأي بالنفس» قد تعمّم في زمن حكومة ميقاتي التي تمّ «إعلان بعبدا» في زمنها، إنما استُخدم للمرة الأولى أيام الحكومة الأولى للحريري.
 
ففي العام 2010، كان لبنان يمثل المجموعة العربية في مجلس الأمن، وجرى طرح مشروع قرار بعقوبات جديدة على إيران. فوقعت الحكومة في مأزق لم يكن في حسبانها. التصويت مع العقوبات سيؤدي دون شك إلى «7 أيار جديدة» لأن إيران سترد عبر ذرائعها السياسية والعسكرية في لبنان. والتصويت ضد القرار سيخلق غضباً أمريكياً على لبنان. فكان المخرج أن يتم عرض الموضوع على مجلس الوزراء للتصويت، بحيث يحصل على أصوات متساوية بين المؤيدين والمناهضين، بما يؤدي إلى اتخاذ قرار بامتناع لبنان عن التصويت. 
 
حين حصل التصويت في جلسة مجلس الوزراء وتساوت الأصوات، طلب رئيس الجمهورية من وزير الخارجية أن يبلّغ سفير لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة آنذاك نواف سلام أن لبنان «ينأى بنفسه» عن التصويت، بمعنى أنه بين الخيارات الثلاثة: الموافقة أو الاعتراض أو الامتناع، فإنه سيذهب إلى الخيار الثالث – خيار الامتناع.
 
وهكذا، جنب لبنان نفسه من المأزق. مرّ القرار 1929 الذي فرض «قيوداً جديدة على الاستثمارات الإيرانية وحظراً على بيع إيران بعض الأسلحة الثقيلة كدبابات وطائرات ومروحيات قتالية ووسع لائحة الأفراد والكيانات الإيرانية التي تطاولها العقوبات من دون أن يكون لبنان مؤثراً سلباً أو مشاركاً ومؤيداً للقرار»، مما وفّر رضى أمريكياً وإيرانياً في آن. 
 
تعريف «النأي بالنفس» هو الامتناع عن القيام بعمل ما أو التدخل في مسألة ما. وهو في رأي، مستشار الرئيس ميشال سليمان بشارة خيرالله، "مبدأ يتم اعتماده خدمة لسياسة التحييد التي هي سياسة عامة تتخذها الحكومة كفعل إرادي من ذاتها. فالتحييد كسياسة قد يتطلب أحياناً كثيرة موقفاً بالنأي بالنفس وأحيانا أخرى موقفا بالانخراط أو موقفاً صارماً أو رافضاً، فيتم اتخاذه من أجل ضمان سياسة التحييد".

التحييد في زمن الثورة

البند 12 من «إعلان بعبدا» نص على «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلْمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب إلتزام قرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم».
 
انتهاج مبدأ «التحييد» يومها لم يُحدث «رعباً سياسياً». أتى على خلفية «الثورة السورية» التي دعمتها قوى الرابع عشر من آذار. كانت الثورة لا تزال في بداياتها، وحين بدأت تتعسكر، ونظراً إلى تماس الحدود السورية بغالبيتها مع المناطق السنيّة، كانت مصلحة «حزب الله» في تبني القوى اللبنانية سياسة التحييد التي من شأنها أن تقطع الطريق على إمكانات انخراط الشبان السنة في صفوف المعارضة السورية. ولم يشكل أنزعاجاً لدى الأطراف المؤيدة لخط «الاعتدال العربي» بل قبولاً، لأنه لا يؤثر على موقع لبنان كجزء لا يتجزأ من الاجماع العربي ومن المنظومة الدولية.
 
ويروي خيرالله أن «إعلان بعبدا هو الذي كان الدافع وراء إنشاء المجموعة الدولية لدعم لبنان، التي تألفت من أجل مساندة لبنان في انتهاج هذه السياسة». وقد حرصت المجموعة في اجتماعها الأخير في باريس بعد عودة الحريري في حكومته الثانية عن استقالته في السادس من كانون الأول/ديسمبر الماضي على دعوة «جميع الأطراف اللبنانية إلى تنفيذ سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية وعدم التدخل فيها» وإيلاء المجموعة «أهمية كبيرة لهذا الأمر، وفقا لما ورد في الإعلانات السابقة وتحديدا في إعلان بعبدا لعام 2012».
 
على أن سياسة «النأي بالنفس» كتعبير معدّل لسياسة «التحييد»، والتي يُفترض أن يكون وليد اقتناع فعلي لدى مختلف القوى بما يؤمن مصلحة لبنان العليا، لا تعدو كونها مخرجاً لفظياً عند نشوء أزمة لها علاقة بالصراع الإقليمي، وتحديداً المواجهة السعودية – الإيرانية أو الأزمة السورية.

حبر على ورق

فرئيس الجمهورية الحالي ميشال عون كان أكد في خطاب القسم «ضرورة إبتعاده عن الصراعات الخارجية» وتبنّت ذلك حكومة الحريري التي تضم ممثلين لحزب الله، لكن ذلك بقي حبراً على ورق. هكذا كان ويبقى ويستمر/ وفق كثير من المراقبين المتشائمين.
فحين رأى «حزب الله» ضرورة انخراطه عسكرياً وبشكل مُنَظم وفعال في الحرب إلى جانب النظام، نفض يده من «إعلان بعبدا» وسياسة «التحييد» و«النأي بالنفس» وكل التعابير الأخرى التي قد تعوق وجوده في سوريا أو تدينه. وحين رأى أمينه العام حسن نصرالله أن «عاصفة الحزم» في اليمن تتطلب توليه شخصياً المعركة الإعلامية المساندة للحوثيين لم يتوان عن ذلك، وحوّل منابر بيروت وصحافتها وإعلامها المحسوب عليه ساحة شتم على السعودية وقادتها.
 
ولا يقف الأمر عند حدود الدعم الإعلامي بل يتعداه ومنذ سنوات إلى الدعم العسكري واللوجستي والعملاني، الذي استمر على تصاعد مع العهد الجديد، ومع الحكومة التي ألفها الحريري ما جعل الرياض تنظر إليها على أن حكومة تؤمن الغطاء لـ»حزب الله» ومشروعه في المنطقة ولاستهدافه المباشر للمملكة عبر مشاركته العسكرية في اليمن وإشراف خبرائها على الهجمات على الحدود اليمنية – السعودية وعلى إطلاق الصواريخ البالستية.

تراجع تكتيكي

بدا واضحاً أن على «حزب الله» أن يتراجع بعدما أطاحت السعودية بحكومة الحريري عبر استقالته من الرياض. تراجع تكتيكياً بما أفسح المجال أمام رئيس الحكومة إبن المملكة للعودة عن استقالته بضمانة فرنسية من إيران وبمواكبة مصرية، وأشّر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قبل أسابيع إلى ضمانة رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي هو أحد طرفي «الثنائية الشيعية» المتمثلة بـ«حزب الله» بزعامة نصرالله و«حركة أمل» بزعامة بري.
 
ولكن سريعاً انقض «حزب الله» على «التسوية المُجَددة». فما أن مرّ قطوع الحريري وعاد على استقالته بعد «تجديد التسوية الرئاسية»، التي لم تتكشف بعد مساراتها المُعدّلة، حتى رجع «حزب الله» إلى خرق «النأي بالنفس» سواء إعلامياً من طهران على لسان نائب نصرالله الشيخ نعيم قاسم أو عملياً بزيارة كل من قائد «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي أحد قيادات الميليشيات العراقية في الحشد الشعبي وقائد لواء الباقر السوري أبو العباس إلى الحدود اللبنانية – الإسرائيلية في رسالة واضحة بتوقيع إيراني لواشنطن عبر إسرائيل، أو سواء سياسياً على لسان نصرالله نفسه الذي أعلن أخيرا أن الحرب اليمنية طويلة لأن السعودية تريد نصرا مدرجاً بالدم أو إعلانه عن التحضيرات التي يقوم بها «محور المقاومة» ضد إسرائيل في الحرب الكبرى التي ستشهد مجيء مئات الآلاف من المقاتلين من المحور الممتد من إيران إلى العراق فسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة والذي أضاف إليه حوثيي اليمن، معلناً أن عبد الملك الحوثي أبلغه أنه على استعداد لارسال عشرات الآلاف من المقاتلين اليمنيين. خروقات شهد لبنان ردأ رسمياً من رئيس الحكومة في بدايتها، حين ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو الخزعلي «يتمخطر» على «بوابة فاطمة» عند الحدود. طلب يومها تحقيقاً وإتخاذ إجراءات أمنية ومنع دخول الميليشياوي العراقي، وتوقف بعد ذلك. فإذا أراد أن يسجل موقفاً على كل خرق، سيكون عليه التفرغ. هي صورة هزلية عن واقع السلطة اللبنانية العاجزة!
 
يتحدث نصرالله وكأن لا دولة لبنانية ولا جيش ولا حكومة ولا من رئيس جمهورية يُطلق عليه تسمية «الرئيس القوي»، إنما الواقع يدل على تلك «الحقيقة المرة» لكثيرين، إذ تبدو الدولة ومؤسساتها في حالة عجز مع صمتها المطبق تراهن على عوامل الزمن الذي قد لا يأتي، وإن أتت فقد تكون متأخرة وتكون تكرست كل الاختلالات في التوازنات السياسية، بحيث عندها قد تصبح سياسة «النأي بالنفس» من الأحلام الوردية للبنانيين غير قابلة التحقّق. هو زمن يتغيّر ويتبدل، لكن التغيير عندما يكون على حساب هيبة الدولة ومكانته وسلطتها، فإنه لا يحتاج إلى كبير عناء لمعرفة مآلاته.
 
«نأي بالنفس» أو «تحييد» أو «إعلان بعبدا» أو حتى «حياد ايجابي» سياسات وتعبيرات ومبادئ لا يعود لها مكان وسط الصراعات الكبرى والحروب المُدمرة التي تكون الشعوب وحدها الضحية على الدوام!.


رلى موفق - "القدس العربي" - 8 كانون الثاني 2018

إرسال تعليق

 
Top