0
حتّى في السياسةِ، الحقيقةُ تَسكُن الأعماقَ. تُفضِّلُ أنْ تَخرجَ ريثما يُصبحُ لها مَرقَد. غَنيٌّ ما حدثَ في الأسبوعين الماضيَين. يُحرَزُ أنْ نُقيِّمَه بعيداً مِن الحساسيّات.
1- عظيمٌ لبنان: لا يزالُ بلدُنا يُثير اهتمامَ العالَم. في اللحظةِ الصَعبةِ استُنفِرَ الغربُ والشرقُ لحمايةِ استقرارِه. تَخطَّت الدولُ الغربيّةُ مصالحَها الاقتصاديّةَ الهائلةَ مع المملكةِ السعوديّةِ دفاعاً عن حرّيةِ رئيسِ حكومتِنا سعد الحريري.

حتى ألمانيا، التي قلّما تَتحمَّس، تصاريحُ وزيرِ خارجيّتِها أثارت استياءَ الرياض، فاستدعَت السفيرَ الألمانيَّ مُحتجّةً. جميعُ المواقفِ التقَت على عدمِ جوازِ تحميلِ لبنانَ كلَّ خطايا الشرق. هذه الظاهرةُ تُحيي الأملَ بثباتِ لبنانَ وسْطَ الأعاصيرِ وتُعزِّز الثقةَ بالمستقبل.

2- رائعون الموارنِةُ أحياناً: تَمكّنَ رئيسُ جمهوريّةِ لبنان المسيحيُّ المارونيُّ مِن أنْ يستعيدَ رئيسَ وزراءِ لبنانَ السُنيَّ من قلبِ أرفعِ مرجِعيّةٍ سُنيّةٍ عربيّةٍ وعالميّة. إنّها الميثاقـيّةُ بامتياز، بل الكرامةُ الوطنيّةُ التي جَسّدها العماد ميشال عون، وهي توازي الصلاحيّاتِ الضائعة.

لولا موقِفُ الرئيسِ اللبناني لما تَحرّك العالمُ، ولما كان الرئيسُ الحريري عاد إلينا بعد. مفارقةٌ أن يُحييَ المارونيُّ مِن لبنانَ «الصغير» دورَ المسيحيّين الكبير في الشرقِ، بينما المسيحيّون يُضطهَدون في سوريا والعراق وغيرهِما ويُفرَّغُ الشرقُ منهم.

3- صامدٌ سعد: كشَفت الأزمةُ ـ المعاناةُ أنَّ سعدَ الحريري يَعرِف كيف يَتجاوزُ الصعوباتِ والمِحنَ ويَصمدُ بوجهِ الضغوط. حَكى من دونِ أنْ يَتكلم. استعادَ حركتَه من دونِ إغضابِ السعوديّة، ونفّذَ حُكمَ استقالتِه بوِجدانيّةٍ عوَّمَت شعبيَّته.

جُزءٌ كبيرٌ من هذه الشعبيّةِ العائدةِ هو أقربُ إلى التعاطُفِ منه إلى التأييدِ الثابت. ودورُ سعد الحريري أنْ يُحوِّلَ هذا التعاطفَ المرحليَّ حالةً سياسيّةً دائمةً، بالرجوعِ التدريجيِّ إلى ينابيعِ «ثورةِ الأرز» بنُسخةٍ مُنقَّحةٍ تأخذُ في الاعتبارِ ما لنا وما علينا، فيُبعِدُ المَشبوهين والمداهنين ويُقرِّبُ الأشخاصَ ذوي الصُدقيّة. اغتيالُ رفيق الحريري عَزَّز لدى شركائنا السنّة الإيمانَ بـ»لبنانَ أولاً»، ومعاناةُ سعد الحريري خَلقَت عَصَباً سنّياً لبنانيّاً اسمُه: «الكرامةُ أولاً» على حسابٍ عروبةٍ ما.

4- حيّةٌ الدولةُ: لأوّلٍ مرّةٍ منذ... (بلا تحديد)، تُثبِتُ الدولةُ اللبنانيّةُ وجودَها، يَضرِب رئيسُها على الطاولة، يجوبُ وزيرُ خارجـيّتِها العواصمَ العربيّةَ والدوليّةَ، وتُطِلُّ موحَّدةً تُطالِب بحقِّها من دونِ حساباتِ الربحِ والخِسارة.

5- جليلةٌ الأزْمةُ: خِلافاً للانتكاسةِ الشكليّةِ، سجَّلت السعوديّةُ نُقطةً هامّة. فمِن خلالِ الأزمةِ الحكوميّةِ اللبنانيّةِ التي فَجَّرتها، فَتحَت الرياض بابَ إعادةِ النظرِ بتمدُّدِ إيرانَ وحزبِ الله في الشرقِ الأوسط، فسارعا إلى التَنصُّلِ من حربِ اليمن، وأعلنَ حزبُ الله عدمَ ضرورةِ بقائِه في العراقِ وبراءَتَه من الصاروخِ الباليستي على مطارِ الرياض. على أنَّ هذه الايجابيّةَ تحتاجُ إلى ترجمةٍ وإلى أنْ تَشمُلَ الدورَ الإيرانيَّ في سوريا وسلاحَ حزبِ الله في لبنان.

6. نبيلةٌ فرنسا: في الليلةِ الظلماءِ لا تُفتَقدُ. هي هنا. رئيسُها، إيمانويل ماكرون، يَستَقِلُّ الطائرةَ مرّتين من أجلِ لبنان. يَتكَّلمُ بنبرةٍ واضحةٍ مع وليِّ العهدِ السعوديِّ الأميرِ الإصلاحيِّ محمد بن سلمان.

يُرسِل سفيرَه لزيارةِ سعد الحريري في «مُربَّعِه». تَطَّلعُ ديبلوماسيّتُه واستخباراتُه على وضْعِ رئيسِ الوزراء اللبنانيّ. يَكشِفُ إِعلامُ فرنسا الحقيقةَ فيكبُر حجمُ القضيّة. ثُمّ يَدعو الحريري إلى باريس ويَستقبلُه في «الإيليزيه» حرّاً، بعاطفةٍ قَلَّ نظيرُها: «هذا هو أخي الحبيب الذي به سُرِرت».

7- ثابتةٌ مِصر: دولةٌ لا بديلَ عن زعامتِها في العالمِ العربيّ ولا عن حِكمتِها في تصويبِ الأمورِ وسحبِها نحو الاعتدالِ والواقعيّة. هكذا كانت مع لبنان على العمومِ منذُ سنةِ 1959 حتّى اليوم. سنةَ 1969 نَصحَ عبدُ الناصر لبنانَ بعدمِ توقيعِ اتفاقيّةِ القاهرة.

وسنةَ 1976 قال أنورُ السادات لسوريا والعربِ وإسرائيل: «ارفَعوا أيديكم عن لبنان». وطَوالَ سنواتِ المحنةِ كانت مِصرُ حاضرةً تتوسَّطُ بين اللبنانيين، وبينَهم وبينَ سوريا والفِلسطينيّين. واليوم يُضيفُ الرئيسُ السيسي لؤلؤةً إلى لآلئّ الديبلوماسيّةِ المِصريّة.

8- مفيدٌ الثنائيُّ الجديد: بَلوَرت الأزمةُ اللبنانيّةُ مِحوراً مِصريّاً ـ فرنسيّاً بموازاةِ المِحورِ السعوديِّ ـ الأميركيّ. المِحوران يَتمايزان من دونِ تناقُضٍ ويتكاملان من دون استِنساخ. ولبنان، الصديقُ للمحورين، يَرتاح إلى المحورِ المِصري ـ الفرنسيِّ لأنه يُعطيه فُسحةَ خِياراتٍ وتوازناً في عَلاقاتِه العربيّةِ والدوليّة، ولأنَّ المِحورَ الجديدَ قادرٌ على الحوارِ مع جميعِ دولِ المِنطقةِ ومَحاورِها خِلافًا للمِحور السعوديِّ ـ الأميركيّ.

9- خبيثةٌ إسرائيل: من على شُرُفاتِ الجليلِ والجولان كانت إسرائيلُ تَتفرَّجُ على ما يجري. تُثيرُ هذا وتُوهِم ذاك. ظنّ الواهِمون عندنا أنَّ إسرائيلَ رهنُ إشارتِهم ففوجِئوا بالفارقِ في التوقيت: حِساباتُ إسرائيل غيرُ حساباتِهم ومَخطِارُها غيرُ مخطِارِهم وحلفاؤها المستَترون هم بين أعدائها المُعلَنين.

إسرائيل تُفضِّلُ قَطفَ الثمارِ بعدَ نضوجِها. وأصلاً، إن ما يجري الآن هو جُزءُ من صراعٍ إسرائيليٍّ ـ إيرانيٍّ بدأ على أرضِ لبنان وسوريا أكثر مِمّا هو جُزءٌ من الصراعِ السعوديٍّ ـ الإيرانيّ التقليديّ.

10- جيّدٌ التغيير: أكّدت التطوّراتُ الأخيرةُ أنَّ السياسةَ التقليديّةَ اللبنانيّةَ تحتاج إلى تَكيُّفٍ مع التحوّلاتِ الاستراتيجيّةِ في الشرقِ الأوسط. فمن دونِ التخلّي عن الأصدقاءِ التاريخيّين، لا بُدّ من إقامةِ شبَكةِ علاقاتٍ مفتوحةٍ على كلِّ المحاوِر من دونِ التورّطِ فيها. انتهى عصرُ التحالفاتِ الإحاديّة.

العولمةُ تَعني عولمةَ التحالفاتِ أيضاً. المتخاصِمون في الإعلامِ متواطئون على الأرض: في سوريا يحارِبُ الأميركيّون والروس والإيرانيّون وحزبُ الله العدوَّ نفسَه (داعش) مع أنَّ أميركا تَتّهمُ إيران وحزبَ الله بممارسةِ الارهاب.

في العراق تَنتقدُ واشنطن الهيمنةَ الإيرانيّةَ وتدعمُ الحكومةَ والجيشَ العراقيَين، الإيرانيَيْ الهَوى. وفي لبنان تَفرِضُ واشنطن العقوباتِ تِلوَ الأخرى على حزبِ الله ثم تدعو إلى الاستقرارِ المرتَكِزِ أساساً على تعاونِ حزبِ الله مع القوى القريبةِ من أميركا.

الأزمةُ الحكوميّةُ المستمرَّة، والمُنفتحةُ قريباً على تطوّراتٍ أخرى، يُمكِنُ أن تكونَ عمراً جديداً للعهدِ لا للحكومة. بعدَ أزمةِ الرابعِ من تشرين الثاني ليس حُلمُنا العودةَ إلى الثالثِ منه. غيرُ مفيدٍ أنْ نُداوى «بالتي كانت هي الداءُ».

 سجعان القزي - الجمهورية 27 تشرين الثاني 2017

إرسال تعليق

 
Top