0
كان فوق، على ارتفاع 1950 مترا. شمس حارقة، عراء، تعب. ايا يكن، تأهّب الاب ايلي قرقماز الراهب اللبناني الماروني. دقائق و”حلّق” عاليا جدا، آخذا معه كل لبنان، في جولة حول القديس شربل، اضخم تمثال في العالم ارتفع على اعلى تلة في فاريا… ليعود باجمل الصور، من الجو. مع “الفلاي كام”، “نخرج من زحمة العالم، كأنها تحلق بنا الى السماء، ونرى الدنيا بنظرة مختلفة كليا”، يقول لـ”النهار”. ولا مثيل لهذا الشعور. “الصورة صلاة بذاتها”.

يلهم طلابه موهبة تحكي وتضحك وتغني وتصلي وتخبر الناس حكايات وتحمل رسائل اليهم… التصوير احدى الوسائل التي يخاطبهم بها، ليخبرهم عن المحبة والرجاء والله. “المحبة صلة الوصل، وهي الابقى”، على قوله. الراهب المدير منهمك جدا في ادراة المدرسة. والكاميرا “وقت راحتي”، الوقت الذي يأخذه الى امكنة بعيدة جدا.

الصورة بركته الخاصة. “هذه الثانية التي التقطها تصبح خالدة بالنسبة اليّ، من خلال عيني، بُعدي انا، نظرتي الخاصة التي يمكن ان تختلف عن نظرة آخر او تلتقي بها”. الشاب ايلي الذي “دقّ” قلبه لله، للحياة الرهبانية، كان موهوبا للتصوير الفوتوغرافي منذ نشأته.

“استراحتي”

كان لا يزال في السابعة عشرة عندما دخل “طالبية الرهبنة” العام 2000. النذور 2002، ثم رُسِم كاهنا العام 2010. 17 عاما في الرهبانية اللبنانية المارونية. وعلى مرّ الاعوام، اعتنى قرقماز بموهبته ونماها، في وقت اتخذ له اختصاصا آخر مختلفا كليا. الادارة التربوية. واذا كانت حياته الرهبانية تستحوذ على اهتماماته، فان التصوير يبقى في القلب. “غالبا ما كانت الطبيعة تجذبني. ويوم اصبحت لدي كاميرا، اكتشفت ان لدي نظرة جمالية الى التصوير لم اتنبه اليها قبلا”، على قوله.

المدير السابق للمعهد التقني في المدرسة المركزية تولّع بالكاميرا. رفيقة الدرب اخذته الى احلامها، الى الضوء والصلاة والجمال في كل شيء. رغم وقته الرهباني المزحوم، يُبقِي لها وقت فراغ قليل. “في وقت استراحتي، اركز على التصوير، على فكرة معينة لانفذها”.

الصورة مهمّة جديّة له. يفكر فيها، يتأملها، يغوص في تفاصيلها، ويغامر في الرحلة. “من خلال كل صورة، اريد ان اوصل رسالة معينة”، على قوله. والمهمّة تطوّرت شيئا فشيئا. “بدأت اصور امورا جميلة وانشرها على “الفايسبوك”. وصرت الاحظ ردودا مثنية يكتبها اشخاص وجدوا في صوري ما يريحهم. واكتشفت ان ما اوصله يلاقي استحسانا لدى الناس، وكانوا يتشاركون في صوري على وسائل التواصل الاجتماعي. وساعدني اكثر التواصل مع بعض الصفحات التي طُلِب مني ان اشارك فيها من خلال صور دينية”. عدد الصفحات يتجاوز الـ15 حاليا.

“لا فرق بين الصلاة والصورة”

نمط العيش الرهباني الذي تطبّع به قرقماز، حسه الشخصي بالحياة الديرية والصلوات… يمكناه من “ايصال رسالة ما”. والرسالة هي “اهمية التركيز على العمق الروحي والانساني، وليس على السطحيات والذاتية”، يقول. في الصور التي ينشرها شبه يوميا على “الفايسبوك” و”تويتر” وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، “رسالة اريد ايصالها الى اكبر عدد ممكن من الناس”.

من العين، تبدأ اللقطة، بالنسبة اليه. “لا فرق بين الصلاة والصورة. الصورة صلاة بذاتها”، يقول. “اذا لم يكن هناك اختلاء بالذات، او صمت داخلي، لا يمكن تقديم صورة تساعد الآخرين على الشعور بالاختلاء والصمت الداخلي، وان يروا فيها بعدا فيه نوع من سلام”. الامر شبه محسوم. اي فشل في تحقيق ذلك، يعني “فشلا في ايصال الرسالة”.

7 سنوات… وحصاد الصور وفير جدا. 10 آلاف على الاقل، وعدد كبير منها انتشر على مواقع اعلامية عدة، بسبب جمالها الفريد. واضاف اليها “الفلاي كام” لالتقاط الصور من الجو. الانطلاقة الاحترافية من دير مار مارون- عنايا من نحو 3 اعوام. والثمار كثيرة ايضا. فيديوات موسيقية تعاون فيها مع آباء من الرهبانية: الاب نعمه نعمه، الاب ميلاد طربيه، والاب انطوان طحان. “اصبح العمل معهم متكاملا، كأننا فريق عمل واحد، لانتاج هذه الفيديوات، باللحن والكلمة والصورة، من اجل ايصال الرسالة”.

النصف الممتلىء من الكأس“

من عنايا، انطلق الاب قرقماز الى اديار ومناطق اخرى. اللائحة طويلة. دير مار انطونيوس-قزحيا، دير مار سمعان- ايطو، دير يسوع الملك، دير مار انطونيوس- خشباو (الرئاسة العامة للرهبانية)، دير مار بطرس وبولس- العدرا، دير قبريانوس ويوستينا- كفيفان… فكرة اخرى طرأت على البال. “لم لا نضيء على كل المزارات في لبنان عبر الصور؟” وهكذا كان. مزار سيدة لبنان- حريصا، سيدة ام المراحم مزيارة، سيدة زحلة والبقاع، سيدة المنطرة-مغدوشة، كاتدرائية القديس بطرس-درعون حريصا… بحر من الصور، والفيديوات بالعشرات. 75 على الاقل.

من اعمال قرقماز ايضا اخراج فيديو عن حياة القديس شربل للاولاد لـ”الصوت العتيق”. التصوير بتقنية الـ360 درجة من اختصاصه. الصورة الدينية في الصدارة، نفحة نسيم عليل. “انها شعلة صغيرة في العالم، في وقت نشهد تشويها له وميلا الى الدنيوية والمأسوية، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي. من الرائع ان نوصل الى الناس صورة جميلة تحمل رجاء”، على قوله.

ومن الرائع ايضا، في رأيه، “نقل الايجابية الى الناس”، في زمن تطغى عليه السلبية. “يسعدني ان اعرّف كل الناس، لا سيما اللبنانيين المغتربين، الى جمال لبنان، والاديرة والمزارات والكنائس”. ويفعل ذلك انطلاقا من رغبة لديه في “نقل رجائي الى الآخرين”، ان “ابيّن النصف الممتلىء من الكأس”.

الرجاء يبقى الرسالة الى كل متألم، الى كل انسان في هذا العالم المتخبط باوجاعه. “المسيح لم ينته على الصليب. لقد قام من بين الاموات. لدينا رجاء القيامة وفرحها”. نصيحته لكل راغب في التصوير “ان يتقن موهبته، وان تكون صوره حاملة رسالة، بعيدا عن الاستهلاكية والمادية، كأنها وقت اختلاء له، وقت صلاة”. ويتدارك: “في التصوير، هناك احاسيس، وخروج من الذات وفي الوقت نفسه اختلاء بالذات. وليس مجرد استهلاك مادي”.

هالة حمصي - "النهار" - 2 أيلول 2017

إرسال تعليق

 
Top