0
أكثر من ألف يوم، وأنتَ يا حسين يوسف مخطوف في خيمة الانتظار في ساحة رياض الصلح مع أهل العسكريين المخطوفين. لم يعد في الإمكان التمييز بين الساحة المحاطة بالبنايات الضخمة وبين جرود عرسال.
المدينة بكاملها أضحت جرداً عرسالياً وعراً وموحشاً. لا السيارات العابرة ولا مواكب الأعراس الفخمة، ولا حركة المطارات والمرافئ، ولا عجقة المهرجانات وزحمة الساهرين في علب الليل، ولا زيارات هواة الظهور على الشاشات، صرفتكَ، يا حسين يوسف، عن وجع الإنتظار.
كأنكَ خارج المكان والزمان. المدينة منصرفة إلى حياتها الطبيعية، وعيناكَ، يا حسين يوسف، تجولان في البعيد البعيد، في الجرود والوديان والكهوف، بقلق الملهوف وشوق الموعود بحثاً عن محمد.
هكذا يطوي أبو محمد الليل والنهار. يعبر الفصول المتشابهة بحرّها وبردها من دون أن تخجل منه المدينة أو يرفّ لها جفن، ومن دون أن تشعر بالنار المشتعلة في صمته. يا لهذه الرقة! يا لهذا الحنان الأبوي!
لقد فضحتنا يا حسين يوسف. لم نرتقِ بأبوّتنا لأولادنا إلى هذه المرتبة من العشق والوله والإنخطاف. الجسد في وسط المدينة والقلب في وادي الدبّ في الجرود.
أنتَ يا حسين يوسف مخطوف، وخاطفكَ هو ابنك محمد، وكلاكما خطفتكما الحزازات والكيديّات والحسابات السياسية الخاطئة.
لا أدري لماذا أرى في وجهكَ يا حسين يوسف، كل مآسينا وأحزاننا وخيباتنا وآمالنا المعلقة. أرى كل الغضب الدفين في صدور الفقراء.
لا أدري لماذا أرى في عينيكَ كل أوجاعنا المزمنة المقيمة في أدغال السياسة وعقم السياسيين، أرى كل انتظارنا الطويل، عسى تنتهي عمليات خطفنا وابتزازنا وتدمير آمالنا وأحلامنا على أيدي اللاعبين الإقليميين والدوليين الكبار في الخارج، وعلى أيدي اللاعبين الصغار في الداخل، المقامرين فوق جثث وقبور أولادنا، في وطن لا يرتوي إلاّ من دماء الفقراء وأحزانهم.
أنتَ يا حسين يوسف تنتظر في الخيمة، مقيماً في وجعكَ، وهم على عجلة من أمورهم، يعربدون ويتساجلون ويبيعون ويشترون ويعقدون الصفقات ويتزاحمون على المواقع ويملأون الأثير زعيقاً، لعلّك تتساءل عن مدّة انتهاء صلاحيتهم.
أنتَ يا حسين يوسف، اللائق والرصين والمترفّع والصّابر، تنتظر عودة محمد في الخيمة، وهم على عجلة من أمورهم يتسابقون على الإستثمار في دم محمد والرفاق الشهداء، يتراشقون بالسموم الطائفية والمذهبية وبالإتهامات فوق الخزعات والجثامين، ويخوضون انتخاباتهم على وهج السكاكين التي حزّت رقاب الجنود الشجعان.
وأنتَ يا حسين يوسف تتمتم في قلبكَ: لقد سقطتم، وسقطت السياسة في امتحان وادي الدبّ وخربة داود ووادي مرطبيا.
يا للوقاحة! يا لهذا الشبق! لم ينتظروكَ لتتعرّف إلى رفات محمد بعد طول هجر وانتظار. لم ينتظروكَ لتدفن محمد. لم ينتظروكَ لتبكي ولتحزن على محمد.
هم على عجلة من أمورهم للتوظيف السياسي وللثأر بعضهم من بعض، بدل الثأر من القتلة الضاحكين والمغادرين في الباصات المكيّفة في وضح النهار.
انتظرتَ يا حسين يوسف، بصلابة وثبات، ثلاث سنوات ولم تنكسر. لم تنحن ولم يزلّ لسانكَ. كسره هؤلاء بهذه الثرثرة العقيمة، وبهذا الإلتباس، وبهذا الضجيج الذي لا يليق بأحزان الثكالى والأيتام.
أنت حزين يا حسين يوسف ونحن حزانى. ممنوع علينا أن نحزن على أولادنا بصمت. ممنوع علينا أن يكون لنا رجاء أو جدار نسند ظهرنا إليه، سواء أكان جيشاً أم وطناً أم غداً آمناً.
لقد تحرّر محمد وحرّر الأرض، بينما نحن لا نزال مخطوفين. حزنك يا حسين يختصر التراجيديا اللبنانية المستمرة منذ عقود، وقد حان الوقت لوضع نهاية لها.
كل الأغاني البليدة التي تمجد موت الشهداء من الفقراء ستعبر مسرعةً وستبقى غارقاً في انتظاركَ وصمتكَ.
وأنتَ تودّع محمداً وخيمة الإنتظار والأمل المفجوع في وسط المدينة، يحضرني ما قاله إبن خلدون في مقدمته منذ سبعة قرون، علّ ذلك يخفف من وطأة لوعتك وخيبتك: "عندما تنهار الدول يكثر المنافقون والمنجّمون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون والمغنّون النشاز.. والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون والإنتهازيون.. تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط.. يضيع التقدير ويسوء التدبير.. ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.. عندما تنهار الدول، يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. ويتحول الصديق إلى عدوّ والعدوّ إلى صديق.. ويعلو صوت الباطل ويخفت صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشحّ الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل.. ويصبح الإنتماء إلى الأوطان ضرباً من الهذيان.. ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الإنتماء.. ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة.. وتسري الإشاعات عن هروب كبير.. وتُحاك الدسائس والمؤامرات ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغنيّ أمر ثروته.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار ويتحوّل الوضع إلى مشاريع مهاجرين.. والوطن إلى محطّة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب.. والبيوت إلى ذكريات.. والذكريات إلى حكايات.."

اصمتوا واتركوا حسين يوسف يحتفل على طريقته. فمحمد قد تزوج البلاد.

انطوان الخوري طوق - النهار 1 ايلول 2017

إرسال تعليق

 
Top