يكون ساذَجاً مَن لم يكن يتوقع، منذ لحظة قيام الحكومة، أن يحاول «حزب الله» دفعَها بأشكالٍ مختلفة إلى التواصل الاضطراري مع نظام الرئيس بشّار اﻷسد. فالبرنامجُ الذي أراده «حزب الله»، يومَ وافق على تسويةِ عون - الحريري ومستتبعاتِها، يقوم على استيعابِ الخصوم («المستقبل» و»القوات اللبنانية» تحديداً)، لينتقلوا من نهج 14 آذار إلى نهجٍ متعاونٍ مع «الحزب». عمَلياً، يردّ «حزب الله» لـ14 آذار محاولاتِها استيعابه وإدخاله في «الحالة اللبنانية» في العام 2005.
اﻷزمةُ الناشئة اليوم، بسبب زياراتٍ يقوم بها وزراء «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحرّ» لدمشق ليست سوى رأس جبل الجليد. بعد ذلك، هناك استحقاقاتٌ كبيرة آتية.
فهذه الزيارات ليست بروتوكوليةً فقط، بل هي زيارات عملٍ وقد تثمر نتائجَ عملية ويتخلّلها توقيع اتفاقات، من ضمن الصلاحيات التي يتمتع بها هؤﻻء الوزراء.
وهذا ما سيؤدّي إلى إحراج مجلس الوزراء، ﻷنّ خلافاً سيقع بين الموافقين على هذه الاتفاقات، وعلى تنفيذها، والرافضين ذلك. وهناك ملفاتٌ ضخمة تنتظر الحلحلة بين بيروت ودمشق، ليس أوّلها ملفا النازحين واﻹرهاب.
في المرحلة المقبلة، سيبدو أنّ لبنان يديره مجلسان للوزراء: أحدُهما متعاونٌ مع نظام اﻷسد واﻵخر يقاطعه. وهذه «الشيزوفيرنيا» السلطوية لا يمكن أن تستمرّ. فليس منطقياً أن يكون هناك تنسيقٌ بين بيروت ودمشق في مجالات الطاقة والعدل والخارجية والدفاع والزراعة واﻷشغال وسواها، وتكون هناك مقاطعةٌ في مجالات الاتصالات والداخلية والصحة والتربية وسواها.
في أيّ حال، سيكون رئيسُ الحكومة سعد الحريري في رأس المعرَّضين للصدمات، ﻷنه المعنيُّ أوّلاً برسم اﻹطار السياسي لحكومته. ولن يكون مناسباً، في المرحلة المقبلة، اﻻستمرارُ في إمرار اﻷزمة على الطريقة اللبنانية، أي بالمرور بنحوٍ غامض على الملف والقول إنّ للوزراء الحق في القيام بزياراتهم لدمشق بصفة شخصية. فهذا النوعُ من إخفاء الرأس في الرمال سرعان ما يسقط.
في المقابل، لدى «الحزب» ما يحضِّره للحريري. وبيئتُه بادرت إلى شنّ الحملة اﻷعنف عليه منذ قيام الحكومة، متّهمةً إياه بالعودة إلى العمل، هو وحلفاؤه، ضد «الحزب»، تحت الطاولة، خلال الزيارة اﻷخيرة لواشنطن، وأنه يوافق على الطرح اﻷميركي توسيع دور القوات الدولية المدعّمة ليشمل الحدود مع سوريا.
أوساط الحريري نفت أن يكون هذا الطرح قد نوقش أساساً في واشنطن. لكنّ «الحزب» أصرّ على الحملة. ويقول بعض المتابعين إنّ «حزب الله» يدرك أنّ الحريري قام بدورٍ إيجابي إذ توسّط لدى اﻷميركيين للتخفيف من الضغوط اﻷميركية عليه، وأنه لم يخالف أسسَ التفاهم الذي أُنجز بين الطرفين يومَ عودته إلى السراي الحكومي. لكنّ الحملة على الحريري يُراد منها وضعُه تحت الضغط، هو وحكومته، ليتنازلَ في الملفات المقبلة، وأبرزها فتح القنوات مع اﻷسد.
يتعرّض الحريري، في بيئته، الى كثيرٍ من الضغوط بسبب الليونة التي أبداها تجاه «حزب الله»، مقابل العودة إلى لبنان وإلى السلطة. وهو لا يفضّل الذهابَ أكثر في هذا اﻻتجاه، فيما تقترب مواعيدُ اﻻنتخابات الفرعيّة والعامة، ويحتاج إلى خطابٍ أكثر انسجاماً مع مزاج القواعد الشعبية في بيئته.
لذلك، لن يبدي رئيسُ الحكومة، تحت أيّ ظرف، ليونةً علنيّة في التعاطي مع دمشق.
وهو متفاهمٌ في ذلك مع حليفه الـ14 آذاري الوحيد داخل الحكومة، الدكتور سمير جعجع الذي كان واضحاً في المبادرة إلى تحديد السقف: الاتصال الرسمي بسوريا خطٌّ أحمر، والدفع في اتجاهه يدفع إلى تطيير الحكومة!
هل كان الحريري وجعجع يتوقعان، منذ انخراطهما في التسوية الرئاسية، أن يصلا إلى مواجهة «حزب الله» حول خياراته، ولا سيما منها اﻻنفتاح على نظام اﻷسد، أم إنّ الرجلين وافقا ضمناً على نوعٍ من التطبيع الهادئ مع الواقع، خصوصاً أنّ القوى اﻹقليمية والدولية الراعية لـ14 آذار تخلّت عنها وتركتها تعاني الهزائمَ المتتالية؟
إذا كان الحريري وجعجع قرّرا مواجهة «الحزب» فمعنى ذلك أنّ الحكومة في خطرٍ حقيقي. لكنّ اﻷرجح هو أنهما يميلان إلى تصرّفٍ أكثر واقعية، خصوصاً إذا كان سقوط الحكومة خطاً أحمرَ دولياً في اللحظة التي يُطلَب منها أن تخوض الحرب لتصفية اﻹرهاب وحلّ أزمات النازحين والتأسيس لتركيبةٍ سياسيةٍ لبنانيةٍ جديدة.
فالحريري يبذل ما في وسعه لتثبيت عودتِه من «المنفى» إلى السلطة، مستعيناً بتحالفٍ لا يريد سقوطَه تحت أيّ ظرف مع الرئيس ميشال عون. واتفاقُ الحريري مع «التيار الوطني الحر» يتجاوز كل الحدود واﻻعتبارات، وينطوي على مكاسبَ لن يتخلّى عنها الطرفان.
ويعتقد الحريري أنّ تفاهمَ تيار «المستقبل» مع كل القوى السياسية المشارِكة في الحكومة، سيسمح له بخوض انتخاباتٍ ناجحة ضد خصومه في البيئة السنّية، ويسمح له تالياً بالعودة إلى السراي في الحكومة التي تلي اﻻنتخابات العامة في أيار 2018. وهو لذلك، لن يتخلّى عن الحكومةِ وشبكةِ التفاهمات التي تغطيها، أيّاً كانت الظروف.
وهناك مَن يعتقد أنّ جعجع لن يخرج من الحكومة منفرداً، كما فعل حزبُ الكتائب في الحكومة السابقة. ولكن، بالتأكيد، «القوات اللبنانية» أكثر حساسية من أيِّ طرف آخر في مسألة التواصل مع النظام السوري.
وواقعياً، الاعتباراتُ الخارجية لا الداخلية، هي التي ستتيح للبنان المقدارَ المطلوب من اﻻتصال مع نظام اﻷسد. وربما يريد عددٌ من القوى في الداخل إرسالَ تطمينات إلى الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى، وعربية، مفادها أنها لن تنفتح على نظام اﻷسد على رغم اختلال التوازنات الداخلية لغير مصلحتها.
وفي الانتظار، ستبقى حكومةُ الحريري ﻷنّ هناك مهمّاتٍ مطلوبة منها دولياً لضمان اﻻستقرار الداخلي، وﻷن لا مصلحة ﻷيٍّ من القوى المحلّية بسقوطها. ولذلك، يبقى التهديدُ بإسقاطها من نوع المناورة السياسية، حتى إشعارٍ آخر.
طوني عيسى - "الجمهورية" - 11 آب 2017
إرسال تعليق