النظرية الإنتخابية الأكثر رواجاً هذه الأيام هي أن دائرة "الشمال المسيحي" (البترون والكورة وزغرتا وبشري) ستشهد "أم المعارك" الإنتخابية في أيار المقبل على خلفية معركة رئاسية تمهيدية يخوضها كل من المرشحين الرئاسيين المفترضين: سليمان فرنجيه وجبران باسيل وسمير جعجع وبطرس حرب.
لكن مقاربة الإنتخابات النيابية المقبلة من زاوية استراتيجية وكيانية بعيدا عن صراعات السلطة والمناصب تجعل من دوائر جبل لبنان الأربع هي الأهم لأن من شأنها أن تساهم في تحديد الهوية السياسية للكيان اللبناني وموقعه الإقليمي والدولي لعقود من السنوات المقبلة.
فمعركة رئاسة الجمهورية تبقى معركة سلطة بين بعض الزعماء الموارنة، في حين أن "المعركة المصيرية" الحقيقية هي معركة تثبيت الكيان اللبناني واستعادة سيادته واستقلاله وإعادة بناء مؤسساته الدستورية بما يتطابق مع النظرة المسيحية التاريخية للبنان.
لقد ارتبط الكيان اللبناني تاريخيا بجبل لبنان، بدءا من زمن الإمارة، مرورا بزمن المتصرفية، وصولا الى قيام دولة لبنان الكبير والإستقلال. فكلما قوي جبل لبنان قويت قدرة لبنان على مواجهة الأطماع الخارجية. وفي كل مرة اهتز جبل لبنان وضعف حضوره السياسي شهد الكيان اللبناني خضات ومشاكل أثرت في استقراره وهددت الحضور المسيحي الفاعل فيه، من حوادث العامين 1860 و 1864، مرورا بحرب الجبل في ثمانينيات القرن الماضي، وصولا الى وضع اليد السورية على لبنان بين العامين 1990 و 2005، ومن ثم المحاولات الإيرانية المستمرة منذ العام 2005 لوضع اليد على الدولة اللبنانية.
لم يستطع الإحتلال السوري فرض وصايته بالكامل على القرارين السياسي والعسكري للدولة اللبنانية إلا بعدما دخل عسكريا في 13 تشرين الاول 1990 الى عمق جبل لبنان.
وها هي الوصاية الإيرانية على الدولة اللبنانية تتعزز يوما بعد يوم بفعل تمدد حزب الله عسكريا وأمنيا وعقاريا في قلب جبل لبنان من جرود جبيل وقمم السلسلة الغربية شرقا الى ساحل المتن الشمالي غربا وسط شبه صمت سياسي وحزبي مطبق يتراوح توصيفه بين العجز والتواطؤ.
لقد كان جبل لبنان عبر التاريخين القديم والحديث نواة الكيان اللبناني وعرين السيادة الوطنية وملجأ السياديين في مواجهة السلطنة العثمانية، والإنتداب الفرنسي، والجمهورية العربية المتحدة بزعامة عبد الناصر، ومنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، ونظام حافظ وبشار الأسد في سوريا وغيرهم، لكنه تحول سياسيا في الفترة الماضية الى "ملحق" يساهم في تبرير سياسات حزب الله وتغطيتها والسكوت عنها في أحسن الأحوال.
فشعارا "الرئيس القوي" و"رئيس صنع في لبنان" وورقة التفاهم (على ماذا؟) بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر لم ينجحوا في تجميل صورة الواقع السياسي - السيادي المتقهقر بفعل تراجع تأثير المشروع المسيحي التاريخي للبنان في مواقع القرار نتيجة ل "ترويض" جبل لبنان سياسيا ومصادرة ذاكرته الوطنية والتاريخية وتحجيم دوره وحضوره على مستوى الدولة والمؤسسات وإلهائه بمحاصصات واغراق ناسه في حملات الدعاية السياسية والاعلامية التي تتحدث عن بطولات وهمية وانجازات دونكيشوتية.
إن استعادة لبنان قوته المؤسساتية وعافيته السياسية تتطلب استعادة جبل لبنان حضوره الفاعل والوازن والتاريخي في الحياة السياسية اللبنانية من خلال احياء المنطق السيادي الرافض لتغطية سلاح حزب الله ووصاية ايران على لبنان، بعدما تبين أن تولي العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية، والتسوية الرئاسية والحكومية والنيابية التي فرضها حزب الله، لم يؤديا الى استعادة الكيان اللبناني ومنطق الدولة حضورهما في الحياة السياسية اللبنانية بفعل تغليب الخطاب السلطوي والمحاصصات الحكومية والنيابية والإدارية على الاعتبارات الكيانية في الاستحقاقات الوطنية، فبات الفرقاء السياسيون والحزبيون يعتمدون الخطاب السياسي الإسترضائي الذي يسمح لهم بالوصول الى رئاسة الجمهورية وتكبير حجم حضورهم الوزراي والإداري وتوسيع كتلهم النيابية على حساب المشروع التاريخي للمسيحيين ونظرتهم الى لبنان ودوره في محيطه.
من هنا، فإن المطلوب خوض الاستحقاقات الإنتخابية المقبلة، بدءا بالإنتخابات النيابية الفرعية في كسروان – الفتوح، بخلفية كيانية تعيد التوازن الى الحياة الوطنية كمدخل الى استعادة القرار الوطني وانتزاعه من ايران كما سبق ان استعيد من سوريا.
لقد أعادت "انتفاضة الإستقلال" كتعبير من تعبيرات الشراكة المسيحية – الإسلامية سمير جعجع وميشال عون الى الحياة السياسية اللبنانية بعدما اسقطت الإحتلال السوري. لكن هذه العودة لم تؤد بعد 12 سنة الى استعادة المسيحيين دورهم الكياني في الحفاظ على المفهوم التاريخي للبنان والدفاع عن هذا المفهوم، بل اغرقتهم في صراعات مسيحية – مسيحية، وأخرى مسيحية – إسلامية على السلطة، في وقت يقضم حزب الله الكيان والنظام والدستور والمؤسسات. لذلك فإن الرهان هو على انتفاضة جبل لبنان لدوره التاريخي في الحفاظ على الكيان اللبناني، فيفرض ناخبوه ونخبه شروطا جديدة للعبة وطنية تسقط التسويات، وتعيد الاعتبار لمنطق الدولة.
نوفل ضو - 4 آب 2017
إرسال تعليق