تجلس فضّة إلى جانب زوجها عزيز حدشيتي على مقعد في قاعة المجلس العدلي بانتظار بدء محاكمة قتلة الشهيد بشير الجميّل، وتستذكر كيف كانت وزوجها على بُعد نحو كرسيَّين من الشيخ بشير يوم وقوع الاغتيال في 1982/9/14. فتقول لـ«الجمهورية»: «كان يبلغنا: ما رَح دشّركن كلّ ثلاثاء لو صرت رئيس للجمهورية، وعنّا يا شباب!». عجز الشيخ عن إكمال عبارته لوقوع الانفجار، ولم أشعر إلّا بالسقف ينهار على رؤوسنا وأنا أصرخ، يا سيدة بشوات!».
عائلة حدشيتي من الشهداء الأحياء الذين يواصلون حضور جلسات محاكمة قتلة الشهيد بشير الجميّل. «كأنّ الحادثة مبارحة صارت، الوجع ذاتو» تقول فضة، مستذكرةً: «سحبوني من تحت الدمار، لفّوني ببطانية وأخدوني بجِيب للحزب على «أوتيل ديو»، والدم نهر من راسي. وأوّل سؤال كان من الأطبّاء شفتو بشير؟».
كادت تسترسل فضة في ذكرياتها الأليمة وهي تكابر على دمعتها، إلى أن لمحت يمنى الجميّل تدخل القاعة، ورأت فيها طيفَ الشهيد بشير: «دخل عينك، شو بتشبهي بيِّك».
لمحاسبة المعتصمين
وقبَيل انعقاد الجلسة اعتصَم عدد من الشبّان المنتمين إلى حركة «8 تموز» أمام قصر العدل دفاعاً عن المتّهم باغتيال الشهيد بشير الجميّل حبيب الشرتوني واحتجاجاً على تحريك القضية.
على وقعِ هتافاتهم النابية بحقّ بشير، وصَل المرجع الدستوري المحامي إدمون رزق، أحد وكلاء عائلة الجميّل، وأعربَ لـ«الجمهورية» عن أسفِه لمشهد الاعتصام، قائلاً: «هناك انحطاط في المجتمع لدرجة التباهي بالقتل والجريمة، نأمل إذا كانت مؤسّسة العدالة ترغب في تأدية دورها، محاسبتَهم، فالتماهي بالقتل والتضامن مع الجريمة يشكّل جريمة أيضاً، لا بدّ من ملاحقتهم».
وعن مدى التفاؤل بأن تصل المحاكمة إلى نتيجة، أجابَ رزق: «أنا رجل قانون، لا أتفاءل ولا أتشاءم، أنا واقعيّ، أواجه وأتحمّل المسؤولية، وأطلب من الدولة من رأس الهرم حتى أسفله إظهارَ قوتِهم في العدالة وبحكمِ البلد بنزاهة».
ماذا في الطابق الرابع؟
منذ الساعة الثالثة، أخذ الصحافيون أماكنَهم عن يمين القوس في المجلس العدلي الكائن في الطابق الرابع من قصر العدل، فيما توزّع أقاربُ ومحبّو الشهيد الشيخ بشير على مقاعد القاعة، أمّا معظم المحامين فتأخّروا في الدخول لنحوِ نصف ساعة، إلى أن دخلوا وفي مقدّمِهم المحامي سليم المعوشي يَصرخ: «ألله يسامح لعَطاهم الأمر»، مستنكراً تكرار إخضاع المحامين للتفتيش في قصر العدل.
بدأ عبءُ الانتظار يرتسم على ملامح الحاضرين، إلى أن أدخَل أحدُ الموظفين المطرقة الخشبية ووضَعها في منتصف قوس المحكمة، فاستبشَر الجميع خيراً. وسرعان ما علت التحيّة «هيئة المجلس العدلي»... تأهّب. قدّم سلاحك»، لتدخل هيئة المحكمة التي ضمّت القضاة: الرئيس جان فهد، جوزف سماحة، تريز علاوي، جان مارك عويس، ناهدة خداج، وممثّل النيابة العامة التمييزية القاضي عماد قبلان.
في التفاصيل...
عند الساعة الرابعة إلّا ربعاً افتَتح فهد الجلسة، مشيراً بيمينه إلى الحاضرين بالجلوس: «مساء الخير أساتذتي تفضّلوا»، وبشمالِه تفقّدَ المذياع أمامه، قبل أن ينتقل إلى مناداة الجهة المدّعية الممثّلة بالسيّدة صولانج لويس توتنجي الجميّل وأولادها النائب نديم الجميّل والشيخة يمنى الجميّل، بعدما قدّم الأخيران طلبَ تصحيحِ الخصومة واتّخاذ صفة الادّعاء الشخصي في 2017/3/2. ثمّ عدَّد أسماءَ وكلائهم. بعدها نادى فهد اسمَ المتّهم: «حبيب طانيوس الشرتوني» ليسودَ الصمت الدامس.
إنطلقَت الجلسة من حيث ما أفضَت إليه الجلسة الإولى، بإصدار قرار مهَل بدعوة المتّهم الشرتوني لتسليم نفسه.
- فهد: تبيّن أنّ قرار المهل بحق الشرتوني قد نفّذ في 2016/12/7 بموجب المحضر 1875/302، الذي نُظم من الشرطة القضائية والمباحث الجنائية المركزية، وقد ألصق قرار التهم على أحد الأعمدة لدى منزل الشرتوني المهدوم في شرتون، كذلك في الأشرفية.
- قبلان: نطلب اعتبارَ المتّهم الشرتوني فارّاً من وجه العدالة.
- فهد: يقرّر المجلس وفقاً لرأي ممثّل النيابة العامة اعتبارَ المتّهم الشرتوني فارّاً من وجه العدالة بعدما تمّت محاكمته غيابياً. كما يقرّر تجريدَه من كامل حقوقه المدنية، ومنعَه من تقديم أيّ دعوى إلّا تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية ورفع يده عن إدارة أملاكه، وتعيين كاتب المحكمة السيّدة ساميا توم قيّماً عليها، ووضع مذكّرة إلقاء القبض الصادرة في حقّه قيد التنفيذ.
تشكيك بموته!
وانتقلَ فهد بكلامه، عن مصير المتّهم نبيل فرج العلم (مواليد العقيبة -1945)، قائلاً: «تبيّن أنّه في 2017/1/10 ورَد من مديرية الأحوال الشخصية بواسطة النيابة العامة التمييزية كتاب يحمل الرقم 2863/م/ع، في 2017/1/4 مرفق بيان قيد عائلي إداري صادر عن قلم نفوس فتوح كسروان 13025454/م/ع/16، تاريخ 2016/12/14 للمدعو نبيل فرج العلم نقلاً عن سجلّ العقيبة الرقم 112 يفيد أنّه بعد الاطلاع على بيان القيد المنوّه تبيّن أنّ نبيل العلم ما زال حيّاً بمقتضى القيود.
وتبيّن أنه بناءً على كتاب مرسَل إلى الأمن العام 2017/1/17، ورَد في تاريخ 2017/3/2 ، يحمل الرقم 4367/1/ع/و/ع يفيد أنّ نبيل العلم قد توفّي منذ نحو السنتين في البرازيل بمرض سرطان الرأس ودفِن هناك وأجريَ له جنّاز الـ40 في كنيسة مار يوحنا نهر إبراهيم، ومن المحتمل أنه لم يوفَّ في دائرة النفوس.
- قبلان: حيال التناقض بين إفادة مديرية الأحوال الشخصية وتحقيق الأمن العام واستزادةً في التدقيق نطلب تكليفَ سفارة لبنان في البرازيل بإجراء تحقيق حول مدى صحّة وفاة العلم.
وتوجّه فهد إلى الجهة المدّعية، فتحدّث المحامي نعوم فرح: «نطلب اعتبار أنّ المتّهم العلم لا يزال على قيد الحياة نظراً لقيود الأحوال الشخصية، وهي قيود رسمية، وقد يكون وراء أخبار الوفاة نوايا للتهريب من المحاكمة طالما لم تبتّ الوفاة رسمياً». وضمَّ المعوشي صوتَه إلى زميله، قائلاً: «أؤيد وأضيف أنّه الشيء الثابت والأكيد أنّ هذا المتهم على قيد الحياة، نطلب إبلاغه لصقاً». وقد أيّد الفرَقاء كافة الجهة المدعية.
- فهد: هل للنيابة العامة ما تقوله بعد؟
- قبلان: أبداً، لكن إذا أخذ القرار وتمّ التواصل مع السفارة، يُستحسن تحديد مهلة زمنية قصيرة، شهر أو شهرين، إذا أمكن الحصول على ذلك.
والنتيجة؟
في ضوء قيود الأحوال الشخصية التي تنفي واقعة الوفاة، قرّر المجلس تسطيرَ «قرار مهَل بحقّ العلم، وإذا ثبُتتَ خلال المحاكمة واقعة الوفاة يُبنى على الشيء مقتضاه. كذلك إصدار مهل بحق العلم ليسلّم نفسَه خلال 24 ساعة قبل الجلسة المقبلة».
- فهد: أساتذة شو عندكن؟
فطلبَ رزق الكلام، واستنكرَ التظاهرة التي سبَقت الجلسة، قائلاً: «نأمل أن يعود القضاء مؤسّسة تحكم وتعيد الثقة إلى الناس، لأنّ مؤشّر نجاح أيّ عهد ومقياس قوّة أيّ رئيس تكمن في تحقيق وتسيير العدالة».
وأضاف: «نحن لا نواجه أشخاصاً إنّما الجريمة وأياً يكن مرتكبها. يجب أن نقف في مواجهة الجريمة، والحمدلله أنّ العدالة عادت إلى استئناف مسارها بعد الفشل والتبعية والوصاية»، مشدّداً على «أهمّية الانتهاء من الجريمة والقتل والسلاح سواء أكان في حزب أو في مخيّم، لأنه لا بدّ من أن يكون السلاح بإمرة القائد الأعلى للقوات المسلّحة كما نصَّ الدستور».
- المعوشي: حضرة القاضي!
- فهد: بعد في؟ ضمن هيدي المحاكمة أو خارجها؟... تفضّل.
- المعوشي: نستنكر التعرّض للمحامين ونحن نرتدي ثوب المحاماة طلِب تفتيشنا، تكرّر الأمر، كنّا على وجه الانسحاب، نضع الأمر بين أيدي النيابة العامة لكي لا يتكرّر الأمر مرّة ثالثة.
- فهد: لأسباب أمنية، «إنت بتعرف الأمن»... يا أساتذة على كلّ حال أخَذنا علم بالموضوع.
بعدها طلب المحامي فرح «أن تقوم القيّمة بأسرع وقت ممكن بالطلب من مصرف لبنان بواسطة النيابة العامة التمييزية وعبر الهيئة الخاصة برفع السرّية المصرفية عن حسابات المتّهم الفار الشرتوني، واتّخاذ الإجراءات بإبلاغ القرار الذي اتّخذه المجلس بحقّه من المراجع الدولية المختصة، وأن يُصار إلى اتّخاذ الإجراءات ذاتها بحقّ العلم، بعد إتمام معاملات قرار المهل». فوافقَ ممثّل النيابة العامة التمييزية على هذه الطلبات.
- فهد: طيّب شباب، بعد عنّا شي؟
كان الصمت سيّد الموقف، وقال فهد: «يقرّر المجلس البتّ بهذه الطلبات في غرفة المذاكرة لإتمام معاملات وإصدار قرار المهل بحق العلم». ليرجئ بعدها الجلسة إلى 2017/4/28.
ناتالي اقليموس - "الجمهورية" - 4 آذار 2017
إرسال تعليق