إنفجرَت أزمة الديون في البلدان الغنية بين العامين ٢٠٠٧ و٢٠١٢، إذ ارتفعت من متوسط وقدرُه ٥٣ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي ٨٠ بالمائة، وتراجعت معه شعبية سياسات التقشّف خلال السنوات الماضية بفضل براهين أثبتت أنّ هكذا سياسات قد تؤدّي إلى نتائج عكسية.
من المتوقع أن ينموَ حجم الديون بالنسبة إلى الدخل في السنوات المقبلة. وبمجرّد تعداد البلدان التي تعاني من ازمة الديون وتراجع النمو وكيف تتعاطى مع هكذا مسألة، يثير حفيظة الاقتصاديين والمحللين وصنّاع القرار في صندوق النقد الدولي الذين رأوا أنّ النهج الاكثر عقلانية يكون كما يقول جورج اوسبورن وزير الخزانة البريطاني، «ان نصلح السقف بينما الشمس تشرق»، بما يعني ان تعمل الحكومات في هكذا ظروف على ترشيد الانفاق وتخفيف الهوة بين الواردات والمدفوعات.
وإذا كان علينا ان نختار بين الديون المرتفعة والمنخفضة فمِن الطبيعي ان نختار الاخيرة لا سيّما وأنّ تزايد الديون يعني طبيعيًا ضرائب جديدة لتحويل الإنفاق على الدين ومدفوعات الفائدة وهذا بحدّ ذاته عبء على الاقتصاد وتفويت لفرص إنفاق في قطاعات مثمرة تساعد على زيادة الناتج ونموّه وتخفّف من الهدر.
لكن عندما تواجه الحكومات أعباءَ الديون العالية أليس من الافضل فرضُ تدابير تقشّف وخفض الأجور أو الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة على الاستثمار؟ الجواب قد يكون حسب معظم المحللين الاقتصاديين يتوقّف على «الفسحة الضريبية» والمالية التي تتمتّع فيها هذه الحكومات.
ويشير هذا المفهوم إلى المسافة بين نسبة الدين الى الناتج المحلي الإجمالي و»حد أعلى» احتسبته موديز شركة التصنيف العالمية لا يمكن تخطّيه ويجب أخذُه بعين الاعتبار من أجلِ تفادي الانهيار.
وحسب هذا الاحتساب يمكن تصنيف الدول نسبةً الى مدى ديونها مقارنةً بهذا «الحد الأعلى» - ودائمًا حسب هذا الاحتساب انّ الدول المتواجدة في دائرة الخطر عليها ان تسعى جاهدةً الى تخفيف ديونها بينما الدول غير المتواجدة في هذه الدائرة مِثل الولايات المتحدة وبريطانيا فإنّ الصندوق كان واضحًا بقوله إنه لا قلق لها بشأن الديون- واستنادًا الى هذا الإجراء اي فئات الدول وتصنيفها حسب مدى ديونها مقارنةً بالناتج وقربها من «الحد الأعلى» فيمكن وضعُ لبنان في مجموعة الدول ذات الوضعية الخطرة لا سيّما أنّ تكاليف رفعِ الضرائب أو خفض الإنفاق مفيدة لتخفيض الديون إنّما حذارِ مخاطر الركود وعدم النموّ مما يعني انّ عمليات التقشّف غير مفيدة كما سبق ورأينا.
اليونان مثال
وخير مثال على ذلك قد تكون اليونان والتي رغم جميع سبلِ التقشف التي شهدَتها لم ينمُ الناتج ولم يتراجع الدين وهي اليوم في وضعية حرجة جدًا وقد يكون الصيف المقبل كارثياً عليها وعلى اوروبا معًا، إذ إنّ نسَب خروجها من الوحدة الاوروبية والعملة الموحّدة اصبحَت اكثرَ بكثير من السابق- الصندوق الدولي والمانيا غير متوافقين على نوعية مساعدة اليونان للخروج من أزمتها المالية- والسؤال الذي يطرح نفسَه ما العمل في وضعية كهذه لا سيّما وأنه قد يكون من الافضل تحفيز النموّ بشكل أسرع هو أفضل من تخفيض عبء الديون فتصبح النسب المئوية متناسبة ويخفّ العجز تلقائيًا.
آثار الديون الإقتصادية
كلّ هذه الامور تطرح السؤال: مسألة مقدار الديون وآثارها الاقتصادية في التضخّم وأسعار الفائدة المرتفعة والنمو البطيء وانهيار العملة لدرجة ان يقرّ الجميع بأنّ هناك حاجة الى إجراءات جذرية- ولا احد يعرف النقطة التي يصبح فيها الدين غير قابل للاستدامة. هذا وحسب تقرير لصندوق النقد الدولي هذه النقطة الحرجة نصل اليها عندما نفترض انّ الحكومات باتت تقترض فقط لدفع الفوائد على الديون.
وعلى سبيل المثال قد نصل لهكذا وضعية في اميركا العام 2019 عندما تصبح الحكومة الاتحادية تقترض مبلغ ٧٢٢ مليار دولار اميركي وحساب فوائدها الصافي سيكون ٧٢٢ مليار دولار. والمشكلة الكبرى هي بالواقع فشلُ معظم الدول في استخدام الديون لدعم نموّ الإنتاجية والعمالة بأجور أعلى أو النمو الاقتصادي، ممّا يعني اقتصاداً يتراجع وديوناً تزداد.
ووضعية الدول عالمياً ومنذ الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ أنّها نفّذت عدداً من السياسات النقدية مِثل التيسير الكمي (QE) وأسعار فوائد صفرية ZIRP وسلبية على التوالي NIRP وهي غير مسبوقة وكانت بهدف واحد هو زيادة النمو في الناتج المحلي الإجمالي في اعقاب أسوأ ركود عالمي منذ الكساد العظيم في الثلاثينات، وبغية تنفيذ هذه السياسات قام بنك اليابان المركزي والبنك المركزي الاوروبي والاحتياطي الفيدرالي وبنك اليابان الصين الشعبي بزيادة أعباء الديون بنسَب باهظة تساوي ٦١٥ بالمائة و٤٥٧ بالمائة و٣٧٠ بالمائة و٣٥٠ بالمائة من إجمالي نسبة الدين الخارجي الى الناتج المحلي الإجمالي.
هذه النسب أعلى من النسب الاكاديمية والتي تتراوح بين ٢٥٠ و ٣٠٠ بالمائة لخفض الديون نسبةً الى الناتج المحلي وبالتالي تحفيزالنمو. اضِف الى ذلك مشكلة كفاءة الدين في دفعِ عجَلة النمو الاقتصادي علماً انّه وفي دراسة اعِدّت لهذا الموضوع تبيّن انه بين العام ١٩٥٥ والعام ٢٠٠٠ أنّ ١،٧ دولار من الدين يولّد زيادة ١ في المائة من نموّ الناتج المحلي الاجمالي في الولايات المتحدة، أمّا اليوم فيلزم ٣،٣ دولارات دين لتحقيق نفس النسبة من النمو.
لذلك وبالمطلق قد يكون من المجدي النظر الى ما سمَّته موديز «الحد الأعلى» والتعاطي مع مسألة الدين والنموّ وفوائده بشكل جدّي يخفّف على الدولة والشعب تناقضات اقتصادية كبيرة ويصبح معها الدين اكثرَ قابلية للعلاج.
الجدير ذكرُه أنّ هذه الدراسات تنطبق على لبنان لا سيّما وأنّ نسبة الدين الى الناتج اصبحَت في مرحلة الخطر ووجبَ على المسؤولين التعاطي معه بجدّية اكثر من اجلِ زيادة النموّ وتحفيز الاقتصاد ووقفِ الهدر والاقتراض.
بروفسور غريتا صعب - "الجمهورية" - 8 آذار 2017
إرسال تعليق