«رصيد الديموقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس»
جان جاك روسو
إنّ أكثر ما يدعو الى القلق على الديموقراطية في لبنان ليس فقط عدم احترام مبدأ تداول السلطة وفقاً للمواعيد الدستورية، ولا التأخر في صوغ قانون للإنتخاب يضمَن صحّة تمثيل اللبنانيين وشموليّته، وإنما خروج «المفاهيم الإنتخابية» عند معظم القادة اللبنانيّين عن قواعدها الديموقراطية المتعارف عليها علمياً في الأنظمة الراقية والحضارية التي تحترم إرادة شعوبها.
فعوض أن تكون ثقافة الإنتخابات قائمة على تنافس المشاريع لإقناع الرأي العام بأفضلها في سبيل حياة أفضل على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية كافة، إذا بها تتحوّل نوعاً من أنواع الحروب الباردة بين أحزاب وقوى سياسية وطائفية يسعى البعض منها الى إلغاء الآخر ولو اتفق معه في الرأي حيال مسائل استراتيجية وتفصيلية، ويحاول آخرون التكاتف للحفاظ على وجودهم ولو اختلفوا في ما بينهم على معظم القضايا المبدئية والسياسية والإجتماعية.
من المتعارَف عليه أنّ ديموقراطية الإنتخابات وصحّتها ونزاهتها لا تتأمّن من دون عنصر أساسي يتمثّل في احترام مبدأ التنافس بين المرشحين والبرامج، وهو ما لا يتحقّق إلّا في ظل توافر عاملين: عددي ونوعي.
والمقصود بالعامل العددي هو توافر أكثر من مرشح، بحيث يمكن للناخب أن يختار، لا أن يكون دوره كما في دول أنظمة حكم الحزب الواحد مجرّد قبول أو رفض إسم ترشحه جهة سياسية أو حزبية تمسك بالقرار.
ولا تنفع بعض العمليات التجميلية التي ابتكَرتها بعض الأنظمة لاستنساخ ديموقراطية مشوّهة من خلال «تعدّدية ترشيح» لا تُعطي الناخب في الواقع بديلاً حقيقياً واحداً على الأقل بالمعنى السياسي للكلمة. فمجرّد تعدّد المرشحين ليس كافياً لضمان التنافس الحقيقي خصوصاً متى كانت هذه الترشيحات تحت سقف «حزب حاكم» أو جهة سياسية مهيمنة على قرار المرشحين.
أمّا المقصود بالعامل النوعي فهو أن تتوافر للناخب خيارات عدة ليس فقط بالأسماء وإنما بالبرامج والتوجّهات السياسية والإقتصادية والتنموية الخ...
والخطر الأكبر على «التنافسية» في الإنتخابات هو إجراؤها في إطار قانون يُحدّد ملامحها العامة بشكل ديموقراطي، ولكن على أساس صراع سياسي واجتماعي لا يستند الى أفكار وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية، وإنما الى صراعات عرقية أو مذهبية فترتبط الأحزاب بمناطق وأعراق وأديان ليتحوّل الصراع الإنتخابي في ما بينها، وداخل كلّ منها، الى ما يشبه الحرب الباردة على السيطرة والنفوذ لا الى تنافس مشاريع خدماتية وتنموية في كلّ المجالات التي تُعنى بحياة الإنسان.
من هنا فإنّ ترسيخ مفاهيم «الثنائيات» الطائفية والمذهبية في لبنان يشكّل ضربةً قاسية للديموقراطية ويحوّل الإنتخابات من إطار سياسي للتنافس ومن آلية لإنتاج السلطة ولمشاركة الناس في تحديد خياراتها، الى متاريس نفسية وسياسية وإعلامية وعقائدية ومذهبية ومناطقية، والى منجم أحقاد وضغائن يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة.
وقد يكون من المفيد تذكير اللبنانيين من أصحاب «النظريات الثنائية» على الساحتين المسيحية والإسلامية بنموذج «إنتخابي» غير مشجّع ديموقراطياً شهده العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين بفعل سياسات شبيهة بتلك التي يعتمدونها في لبنان اليوم.
فالإنتخابات هناك لم تقم على أساس تنافس حقيقي بين قوى سياسية وحزبية تعبّر عن تطلعات جامعة ومصالح مشتركة لمكوّنات الشعب العراقي وإنما على قاعدة التنافس بين مناطق نفوذ جغرافية وتكتلات مذهبية وعرقية مما أنتج شرخاً كبيراً على أساس طائفي وعرقي، الأمر الذي جعَل من الإنتخابات شبه حرب أهلية بدل أن تكون آلية ديموقراطية لإنتاج مجلس نيابي يضمن الإستقرار السياسي وتداول السلطة.
لا نغالي إذا قلنا إنّ معظم قادة لبنان يحضّرون للإنتخابات النيابية كما كانوا يحضّرون للحرب، على قاعدة: «لا شيء يوحّد الشعوب حول قادتها كالعدو... وفي الحرب لا يُغيّر الناخبون قادتهم»، في محاولة للحفاظ على مواقعهم وتعزيزها على حساب الآخرين لقطع الطريق على التغيير المطلوب في الطبقة السياسية الممسكة بالقرار.
أما إذا أراد اللبنانيون الخروج من «ذهنية الحرب»، فإنّ عليهم في البداية الإقتناع بأنّ الحرب قد انتهت. ومن ثمّ بأنّ إدارة السلام هي غير إدارة الحرب.
فـ«وحدة الإمرة» المطلوبة خلال الحروب للفوز بها، يجب أن تتحوّل الى تعدّدية في الرأي وتنوّع في الإتجاهات في مراحل السلام لبناء المجتمعات المستقرة والأنظمة الديموقراطية الصحيحة... من دون ذلك وأيّاً تكن الحجج والذرائع والتبريرات فإنّنا نكون في صدد التأسيس لحروب ومواجهات جديدة خصوصاً أننا مجتمع مركب فكرياً وثقافياً وعقائدياً ودينياً لا يُدار بمنطق الغلبة.
جان جاك روسو
إنّ أكثر ما يدعو الى القلق على الديموقراطية في لبنان ليس فقط عدم احترام مبدأ تداول السلطة وفقاً للمواعيد الدستورية، ولا التأخر في صوغ قانون للإنتخاب يضمَن صحّة تمثيل اللبنانيين وشموليّته، وإنما خروج «المفاهيم الإنتخابية» عند معظم القادة اللبنانيّين عن قواعدها الديموقراطية المتعارف عليها علمياً في الأنظمة الراقية والحضارية التي تحترم إرادة شعوبها.
فعوض أن تكون ثقافة الإنتخابات قائمة على تنافس المشاريع لإقناع الرأي العام بأفضلها في سبيل حياة أفضل على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية كافة، إذا بها تتحوّل نوعاً من أنواع الحروب الباردة بين أحزاب وقوى سياسية وطائفية يسعى البعض منها الى إلغاء الآخر ولو اتفق معه في الرأي حيال مسائل استراتيجية وتفصيلية، ويحاول آخرون التكاتف للحفاظ على وجودهم ولو اختلفوا في ما بينهم على معظم القضايا المبدئية والسياسية والإجتماعية.
من المتعارَف عليه أنّ ديموقراطية الإنتخابات وصحّتها ونزاهتها لا تتأمّن من دون عنصر أساسي يتمثّل في احترام مبدأ التنافس بين المرشحين والبرامج، وهو ما لا يتحقّق إلّا في ظل توافر عاملين: عددي ونوعي.
والمقصود بالعامل العددي هو توافر أكثر من مرشح، بحيث يمكن للناخب أن يختار، لا أن يكون دوره كما في دول أنظمة حكم الحزب الواحد مجرّد قبول أو رفض إسم ترشحه جهة سياسية أو حزبية تمسك بالقرار.
ولا تنفع بعض العمليات التجميلية التي ابتكَرتها بعض الأنظمة لاستنساخ ديموقراطية مشوّهة من خلال «تعدّدية ترشيح» لا تُعطي الناخب في الواقع بديلاً حقيقياً واحداً على الأقل بالمعنى السياسي للكلمة. فمجرّد تعدّد المرشحين ليس كافياً لضمان التنافس الحقيقي خصوصاً متى كانت هذه الترشيحات تحت سقف «حزب حاكم» أو جهة سياسية مهيمنة على قرار المرشحين.
أمّا المقصود بالعامل النوعي فهو أن تتوافر للناخب خيارات عدة ليس فقط بالأسماء وإنما بالبرامج والتوجّهات السياسية والإقتصادية والتنموية الخ...
والخطر الأكبر على «التنافسية» في الإنتخابات هو إجراؤها في إطار قانون يُحدّد ملامحها العامة بشكل ديموقراطي، ولكن على أساس صراع سياسي واجتماعي لا يستند الى أفكار وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية، وإنما الى صراعات عرقية أو مذهبية فترتبط الأحزاب بمناطق وأعراق وأديان ليتحوّل الصراع الإنتخابي في ما بينها، وداخل كلّ منها، الى ما يشبه الحرب الباردة على السيطرة والنفوذ لا الى تنافس مشاريع خدماتية وتنموية في كلّ المجالات التي تُعنى بحياة الإنسان.
من هنا فإنّ ترسيخ مفاهيم «الثنائيات» الطائفية والمذهبية في لبنان يشكّل ضربةً قاسية للديموقراطية ويحوّل الإنتخابات من إطار سياسي للتنافس ومن آلية لإنتاج السلطة ولمشاركة الناس في تحديد خياراتها، الى متاريس نفسية وسياسية وإعلامية وعقائدية ومذهبية ومناطقية، والى منجم أحقاد وضغائن يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة.
وقد يكون من المفيد تذكير اللبنانيين من أصحاب «النظريات الثنائية» على الساحتين المسيحية والإسلامية بنموذج «إنتخابي» غير مشجّع ديموقراطياً شهده العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين بفعل سياسات شبيهة بتلك التي يعتمدونها في لبنان اليوم.
فالإنتخابات هناك لم تقم على أساس تنافس حقيقي بين قوى سياسية وحزبية تعبّر عن تطلعات جامعة ومصالح مشتركة لمكوّنات الشعب العراقي وإنما على قاعدة التنافس بين مناطق نفوذ جغرافية وتكتلات مذهبية وعرقية مما أنتج شرخاً كبيراً على أساس طائفي وعرقي، الأمر الذي جعَل من الإنتخابات شبه حرب أهلية بدل أن تكون آلية ديموقراطية لإنتاج مجلس نيابي يضمن الإستقرار السياسي وتداول السلطة.
لا نغالي إذا قلنا إنّ معظم قادة لبنان يحضّرون للإنتخابات النيابية كما كانوا يحضّرون للحرب، على قاعدة: «لا شيء يوحّد الشعوب حول قادتها كالعدو... وفي الحرب لا يُغيّر الناخبون قادتهم»، في محاولة للحفاظ على مواقعهم وتعزيزها على حساب الآخرين لقطع الطريق على التغيير المطلوب في الطبقة السياسية الممسكة بالقرار.
أما إذا أراد اللبنانيون الخروج من «ذهنية الحرب»، فإنّ عليهم في البداية الإقتناع بأنّ الحرب قد انتهت. ومن ثمّ بأنّ إدارة السلام هي غير إدارة الحرب.
فـ«وحدة الإمرة» المطلوبة خلال الحروب للفوز بها، يجب أن تتحوّل الى تعدّدية في الرأي وتنوّع في الإتجاهات في مراحل السلام لبناء المجتمعات المستقرة والأنظمة الديموقراطية الصحيحة... من دون ذلك وأيّاً تكن الحجج والذرائع والتبريرات فإنّنا نكون في صدد التأسيس لحروب ومواجهات جديدة خصوصاً أننا مجتمع مركب فكرياً وثقافياً وعقائدياً ودينياً لا يُدار بمنطق الغلبة.
نوفل ضو - "الجمهورية" - 4 آذار 2017
إرسال تعليق