0
لا يزال ذلك اليوم الأسود منطبعاً في ذاكرتي كما هو في الذاكرة اللبنانية الجماعية من جيلنا نحن الذين خطفت منا الحرب شبابنا. إنه يوم أسود بكل ما للكلمة من معنى.

ذلك الثالث عشر من نيسان من العام 1975 سقط وجه الشرق المشرق، لبنان. سقط ومن أسف لايزال ساقطاً بالمفهوم الذي كان عليه هذا الوطن الذي بات، من يومها، وطناً صغيراً معذّباً.

أذكر أنني كنت عائداً وخطيبتي ضحى من بلدتها منيارة، وكنّا قد أدركنا مخيم نهر البارد عندما استمعت الى «الفلاش» الأول في تاريخ الإعلام اللبناني... كان في لبنان إذاعة واحدة هي إذاعة لبنان. وتلفزيون واحد هو تلفزيون لبنان. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية والنصف من بعد الظهر عندما قطعت «إذاعة لبنان» برنامجها «العادي» لتبث نبأ عن تعرض «بوسطة» في عين الرمانة الى إطلاق نار كثيف وسقوط العشرات بين قتلى وجرحى، وإنه سبق ذاك إطلاق نار على المسؤول الكتائبي في تلك المنطقة، فسقط قتيلاً.

إنتحيت بسيارتي جانباً في ذلك الطريق الضيق وكان الوحيد الذي يوصل الشمال بعكار وسوريا، الذي كان يجتاز المخيم، واعتصرت رأسي بيدي نحواً من دقيقة. ثم قلت للفتاة التي كانت بجانبي: لقد إنتهى لبنان. الفتاة اليافعة لعلّها لم تكن تدرك (في سنها) كيف تسقط الأوطان. إلاّ انني كنت أرى ذلك، وما سوف يمر على هذا البلد من ويلات وكأنني أقرأه في كتاب. فقد كنت أستشعر خطراً كبيراً يخططونه للبنان. 

وسقط لبنان. لبنان الذي عشناه، وأحببناه، ونعمنا بخيراته وميزاته التي لم تكن متاحة لأي من الشعوب القريبة والبعيدة ذات الأنظمة الديموقراطية والإستبدادية، البرلمانية والرئاسية.. ولأنه كذلك كان يجب أن يسقط!

كان لبنان «الصبي الأزعر» بمفهوم اللهجة العامية: كان فيه برلمان في منطقة البرلمانات تُعين ولا فاعلية لها. كان فيه مدارس وجامعات وسط الأمية. كان مكتبة المنطقة، ومستشفاها، وطبيبها، ومعلمها، ومنتجعها، ومطعمها، ومكتبها، ودار نشرها الخ..

وكان يصر على أن تكون فيه موالاة حقيقية ومعارضة حقيقية بين أنظمة كانت ولا تزال ترفض الرأي الآخر.

كان فيه رؤساء سابقون أحياء يعيشون حياتهم بشكل طبيعي فلا هم قتلى في القبور أو أحياء في السجون كما هي الحال في المنطقة في ذلك الزمان و.. اليوم أيضاً.

كان الدخل القومي فيه مرتفعاً (نسبة الى عدد السكان) أكثر مما كان لدى دول ثرية بباطن أرضها..

وللأسباب تلك مجتمعة، ومعها سبب مباشر هو أنه كان نقيض عنصرية الدولة العبرية.. فكان لابدّ له أن يسقط. ولما كان السقوط يبدأ بالدمار المادي، ثم بدمار القيمة المعنوية فقد تم الدماران بامتياز: دمار الحجر ودمار البشر وإسقاط الدور المسيحي فيه هذا الدور الذي قال لي عنه أحد كبار المسؤولين: لقد استغرقكم، أنتم المسيحيين، 45 سنة حتى أسقطتم الدولة التي بنيتموها، فأجبته على الفور: أما أنتم فلم يستغرقكم أكثر من 45 دقيقة لإسقاط لبنان.

وكان سقوطه ضرورياً لتنبت دبي والدوحة وحتى قبرص.. بل كان سقوطه «ضرورياً» لترسيخ اسرائيل! والفجيعة لا تزال كبيرة. والمهم أن نتعلم.

خليل الخوري - الشرق 14\4\2015

إرسال تعليق

 
Top