0
غادر نزيه خاطر بيروت ولم تغادره؛ بأرصفتها ومقاهيها وغاليرياتها ومسارحها ومهرجاناتها... وناسها وحروبها وثقافتها ومثقفيها. وجه من وجوه المدينة بحداثتها العريضة. المدينة، بيروت، عاشقها وساكنها بتحولاتها وفضاءاتها ونقاشاتها. في قلب الحدث كان نزيه خاطر. في قلب الحداثة. حداثة الزمن الجميل ما بين الخمسينات والثمانينات. 

حداثة، معه وآخرين صنعت بيروت. ألقها. نكهتها. نزقها. تفلتها. جنونها. خرابها. هشاشتها. صبرها. تمردها. ثورتها. نزيه خاطر بيروت، العاصية على كل قيد، او استبداد، أو قمع، بيروت الحرية. حرية الجنون، وجنون الحرية. هكذا تبنى المدن، عندما تُصهر الحساسيات في فضائها، من دون الغائها، عندما تتنوع من دون أن تنكسر.

هو، مع آخرين، ممن عاشوا وعايشوا ببيروت في قمة تألقها. في قمة تجريبيتها. في قمة ازدهارها. في قمة تفردها أحياناً، بالطليعية، جامعة القديم الحي، بالجديد، بالمعاصر، بما هو فوق التصنيف، فوق التنظير، قال نزيه ان بيروت مختبر الابداع ضمير الديموقراطية». عندما كانت بيروت المختبر «جسد الديموقراطية» .

وعاش بيروت في انزلاقاتها وحروبها وخرابها وضعفها واستباحتها. ومحاولة تطويعها وتدمير لجغرافياتها وتواريخها التنويرية والنهضوية. عاش الزمنين بأزمنته العالية: زمن الصعود وزمن التراجع... لكنه في الحالين، لم يخن بيروت التي ساهم في صنعها، في صنع حداثتها، ونقدها، وفنها، لم يخنها وبقي فيها على الرغم من كل المخاطر، ليؤكدها في جسده. وفي وفائه، وفي رفضه الباسها حديد الحروب ومعدن الأسلحة.

بقي نزيه الثقافي في اللازمن الثقافي. والعلماني في زمن الطوائف، والمدني في زمن البرابرة والميليشيات. والطليعي في زمن التقهقر. ولم ييأس ولم يتصدع. صمد نزيه محاصراً بالتفكك. وقف عندما سقط كثيرون. بقي القلم في يده عندما رماه مثقفون كثيرون وتنكبوا السلاح. وجه من وجوه المدينة المتأصلة.. ولكن المتفتحة. المنغرزة لكن اللامحدودة. إبن المدينة. وكأنه ابن كل مدينة. ابن الحداثة غير المقولبة، وغير الأيديولوجية، وغير العنيفة. ابن الضيعة الذي نظر إليها بعين أكبر، وابن المدينة الذي لم ينس الضيعة. من الجبل. نزيه خاطر. ومن الساحل. ومن بيروت.

علامة مضيئة في المقاربات المدنية. نكهة مختلفة في العلاقات. نبرة خاصة تأثر بها كثيرون. وجهة متعددة إلى الفن التشكيلي اللبناني والعربي والعالمي، عرف وبثقافة متسعة وبخبرة معتقة كيف يتعامل مع أصوات الفنانين على اختلافاتهم ومع تجاربهم بتجريبيته المفتوحة ومع هواجسهم بشغف المبدعين ولطالما، كان من ألمعيي نقاد المسرح اللبناني والعربي والعالمي (درس في باريس) في الستينات والسبعينات وحتى اليوم. يعرف كيف يرى. وكيف يكتشف. وكيف يسمع. وكيف يؤُول. وكيف يلتقط.. 

بشرقطة هي من خصوصياته وشخصيته وهويته (المفتوحة) إلى درجة ان نزيه خاطر، من قلة بين النقاد، صاغ طريقته وأسلوبه وطابعه وكلها أثرت في كثير من المسرحيين والكتاب... والبحاثة.

أكثر من ثلاثة أرباع قرن، حضر نزيه خاطر في كل زوايا المدينة ومساحاتها وفي كل مسائل الثقافة وتجلياتها، بقلم هو إلى شفافيته يعرف كيف يخترق الظواهر والنصوص واللوحات والعروض والحالات!

وجه من وجوه بيروت اسمه نزيه خاطر غاب عن 84 عاماً. ضمير من ضمائر الحداثة. قامة من قامات الزمن الجميل، زمن مجانين الشعر، والفنون والحرية.

وهو على امتداد أكثر من سبعة عقود، لم يكل قلمه ولم ينفد صبره، ولم يهزه يأس، أو يكسره عائق... أنه بكل بساطة عميد النقد العربي بامتياز!

17/4/2014 بول شاوول - المستقبل

إرسال تعليق

 
Top